أن تكون عاقلاً في أماكن مجنونة; تجربة روزنهان "التجربة الأكثر جنوناً"
منوعات علمية >>>> منوعات
كان يشغلُ بالَ عالم النفس الأمريكي "ديفيد روزنهان" فكرةٌ دائمةٌ وهي هل يُشخِّص الأطباء الأمراضَ العقلية على نحوٍ صحيح، فقد ظن روزنهان أنَّ نسبة العقلاء داخل المصحات تفوق نسبة المرضى الحقيقيين، ولكن الأمر لم يبقَ في حدود عقله فقط بل قرر عام 1973 أن يُكوِّن طاقماً علمياً لخوض تجربة سيُثبت بها صدق قوله؛ فشكَّل روزنهان فريقاً مُكوَّناً من ثلاث نساء وخمسة رجال وفق الاختصاصات الآتية: ثلاثة علماء نفس، وطبيب أطفال، وطبيب نفسي، ورسام، وربة منزل، وخريج علم نفس في العشرينات من عمره. [1,3,5]
وحتى تتم الخطة كما رسمها روزنهان زوَّر أعضاء الفريق هوياتهم الشخصية بمساعدة بعض المسؤولين لكي يختبروا كفاءة أطبائها وسُمِّي الفريق باسم "المرضى الزائفون".
سعى "المرضى الزائفون" إلى تأمين القبول في مجموعة متنوعة من المصحات العقلية، إذ حددوا 12 مصحاً عقلياً مختلفاً في خمس ولايات مختلفة على السواحل الشرقية والغربية من الولايات المتحدة الأمريكية، كان بعضها قديماً ومتهالكاً والآخر جديداً تماماً، وكانت نسبة الموظفين إلى المرضى جيدة في بعض المصحات في حين كان البعض الآخر يعانون نقصاً كبيراً في الموظفين، وبعد استدعاء هؤلاء الأشخاص إلى المستشفى من أجل التشخيص، وعند وصولهم إلى مكتب الاستقبال تظاهروا أنهم يشتكون من سماع أصوات غريبة، ورداً على سؤالهم عن ماهية تلك الأصوات كانت الإجابة المتفق عليها أنَّها غالباً ما تكون هذه الأصوات غير واضحة، ويمكن القول أنَّها "فارغة" و"جوفاء".
في الحقيقة اختيرت هذه الأعراض بسبب تشابهها الواضح مع الأعراض الوجودية، إذ يزعم أنَّ مثل هذه الأعراض تنشأ عندما يشعر المرء بمخاوف مؤلمة عن عدم وجود معنى لحياته، فقد يبدو الأمر حينها كما لو كان الشخص المهلوس يقول: "حياتي فارغة وجوفاء"، حُدِّد اختيار هذه الأعراض أيضاً لعدم وجود تقرير موحد عن الذهان الوجودي في علم النفس.
حدث ما لم يكن متوقعاً: كان "المرضى الكاذبون" خائفون من أن يُكتشف أمرهم مما يسبب لهم إحراجاً كبيراً، ولكن ما حدث كان العكس تماماً، في الواقع إنَّ هذه الخدعة وقع بها الأطباء بسهولة، وسرعان ما قُبِلوا على أنَّهم مرضى وتمكنوا من الدخول إلى جناح الطب النفسي وشُخِّصت حالاتهم على أنَّها فصام "شيزوفرينيا"schizophrenia.
تعايشوا مع المرضى الحقيقيين والعاملين داخل المصحات طبيعياً، وتوقفوا عن التظاهر بأي أعراض غير طبيعية، ولكن في بعض الأحيان كان ينتابهم نوع من العصبية والقلق المعتدل، إذ لم يعتقد أي واحد منهم أنه سيُقبل بهذه السهولة.
استجاب "المرضى الكاذبون" لتعليمات المشرفين المتعلقة بتناول أقراص الدواء (التي لم يبتلعوها)، وتعليمات قاعة الطعام، وكانوا يمضون وقتهم في تدوين ملاحظاتهم عن الجناح والمرضى والموظفين "سراً" في البداية، ولكن بمجرد أن اتضح أنه لا أحد يهتم بهم بدأوا يكتبونها في الأماكن العامة، والأغرب من ذلك أنَّ 35 من إجمالي 118 شخصاً من المرضى الفعليين أعربوا عن شكوكهم تجاه المرضى الزائفين واتهموهم بأنهم جواسيس ومزيفين جاءوا لنقل أسرارهم (في إشارة إلى تدوين الملاحظات المستمرة)، في حين طُمئِن معظمهم عن طريق إصرار المرضى الزائفين على أنهم كانوا حقاً مرضى قبل دخولهم لكنهم بخير الآن، مع ذلك استمر بعضهم في الاعتقاد بأنهم حقاً عاقلون.
لكن الخروج لم يكن سهلاً مثل الدخول، فقد تعرضوا للمعاملة القاسية وانتهكت حياتهم الشخصية حتى في دورات المياه، الأمر الذي جعلهم يريدون الفرار بأي طريقة، وعندما أخبر فريق روزنهان أنهم أصبحوا أصحاء قال لهم الأطباء أنتم لا زلتم مجانين، وأمروهم بتناول الأدوية وخوفاً من الصعق بالكهرباء؛ فتظاهروا بأنهم يتناولون الأدوية لكنهم في الحقيقة ألقوها في المراحيض، وبعد مرور شهرين من التعب استطاع المحامي الخاص بهم إخراجهم بعد أن وقَّعوا وثيقة أنهم مجانين وقد شُوفوا [5,4,3,2,1].
إن أخطر ما في المشكلة أن التشخيص النفسي يحمل معه وصمات شخصية وقانونية واجتماعية تلازم الشخص طوال حياته، لذلك كان من المهم معرفة ما إذا كان يمكن عكس الاتجاه نحو تشخيص "الجنون العاقل".
التجربة المعاكسة؛ تشخيص "الجنون العاقل":
في القسم الثاني من التجربة أُعطيت المستشفيات والمصحات العقلية والنفسية إنذاراً كاذباً بأنه سيكون في خلال الثلاثة أشهر القادمة مريض مزيف من أصل كل 3 مرضى من الذين سوف يأتون إلى المصحات، فقد قدمت فرق المصحات دراسات وتحقيقات شديدة عن كل مريض جديد يُؤخذ إلى المصحات والمرضى الموجودين أساساً داخلها. وأُبلِغَ الطاقم أنه في وقت ما في خلال الأشهر الثلاثة الآتية سيحاول واحد أو أكثر من المرضى الكاذبين الدخول إلى مستشفى الطب النفسي، طُلب من كل موظف تقييم كل مريض قدَّم نفسه في القبول أو في الجناح وفقاً لاحتمال أن يكون المريض مريضاً كاذباً. واستُخدم مقياس مكون من 10 نقاط، وكان المؤشر رقم 1 و 2 يعكس ثقة عالية في أن المريض كان مريضاً كاذباً؛ وكانت النتيجة اكتشاف العديد من الأصحاء الذين أُخذوا إلى هذه المصحات بسبب التشخيصات الخاطئة، وفي الأسابيع التالية حدد الموظفون (القابلات والممرضات والأطباء النفسيون والأطباء وعلماء النفس) 41 مريضاً كاذباً من بين 193 مريضاً جديداً،[3] وذلك بعد معاينتهم وإظهار الشكوك من طبيب نفسي واحد أو أكثر، ومن موظف آخر أيضاً. لكن وفي الواقع، لم يرسل روزنهان أي مريض كاذب إلى المستشفى! [5,4].
في حديث مع ديفيد روزنهان عن تجربته علَّق قائلاً:
"لقد قلت للجميع أنني سوف أخرج من هناك بعد بضعة أيام، فَلم أكن أتصور أبداً أنني سأبقى في المصح قرابة شهرين، وقد كان الحل الأمثل للخروج من هناك هو أن أتقبل كلام الأطباء وأعترفَ بصحته. لقد قالوا إنني مريض نفسي! وكنت أقول نعم أنا مريض، لكني أصبحت أفضل!".
الخلاصة:
ولَّدت التجربة انتشاراً وجدلاً كبيراً بين مؤيد لنتائج هذه التجربة ومعارض لها، ودافع كثيرون عن الأطباء النفسيين لأنهم اعتمدوا على تشخيص تصرفات المريض، وأن المريض هو الكاذب والمخطئ وليس الطبيب [3].
لكن يجب التنويه إلى أنَّ التجربة جرت في منطقة معينة وعلى عدد عينات قليل، إضافةً إلى إمكانية وجود ثغرات في التجربة، وبذلك لا يمكن التعميم والحكم على الأطباء والمعالجين النفسيين كافة بسوء التشخيص، عدا عن ذلك أُجريت التجربة في عام 1973 ومن هذا التاريخ إلى يومنا هذا تطور العلم وتطورت معه طرائق التشخيص، لكن ومع ذلك لا يمكن استبعاد حدوث هكذا حالات أيضاً.
المصادر:
[2]. Rosenhan D. On Being Insane in Medico-Legal Places: The Importance of Taking a Complete History in Forensic Mental Health Assessment [Internet]. Taylor & Francis. 2020 [cited 13 April 2020]. Available from: هنا
[3]. Rosenhan D. Rosenhan [Internet]. Holah.karoo.net. 2020 [cited 13 April 2020]. Available from: هنا
[4]. Rosenhan D. On Being Sane in Insane Places. Science [Internet]. 1973 [cited 13 April 2020];179(4070):250-258. Available from: هنا
[5]. Rosenhan D. The Rosenhan Study: On Being Sane in Insane Places [Internet]. Bonkersinstitute.org. 2020 [cited 13 April 2020]. Available from: هنا