«مدرسة فرانكفورت» و«نظرية النقد»
الفلسفة وعلم الاجتماع >>>> الفلسفة الغربية
تُعَدُّ «مدرسة فرانكفورت - Frankfurt School» حركةً فلسفيةً واجتماعيةً منتشرةً في العديد من الجامعات حول العالم، وتُعرَفُ أيضًا باسم «النظرية النقدية - Critical Theory». كان مركزها حين أُسِِّسَت في (معهد البحث الاجتماعي Institut für Sozialforschung)؛ وهو معهدٌ مُلحَقٌ بجامعة (غوته - Goethe) في فرانكفورت - ألمانيا. إذ أُسِّسَ هذا المعهد في عام 1923 بهدف تطوير الدراسات الماركسية في ألمانيا، لكن في العام 1933 أُغلِقَ المعهد من قبل النازيِّين ونُقِلَ إلى الولايات المتحدة حيث استضافته (جامعة كولومبيا - Columbia University) في مدينة نيويورك (1)، وقد حدَّدَ مؤسسو فرانكفورت وضعه وهدفه منذ البداية، إذ يكون معهدًا حُرًا غير مُقيَّدٍ بالنظم الجامعية والأكاديمية، ويتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والعنصرية وحركة العمَّال والمجتمع، وبلغت هذه المدرسة ذروةَ تأثيرها في الحياة الفلسفية والعقلية وعلى طريقة تفكير الرأي العام الثقافي في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينات، وذلك عندما تبنَّت ((حركة الطلاب)) بعض أفكار «النظرية النقدية»، وأدمجتها في أيديولوجياتها اليسارية الجديدة الرَّفَّاضة لكل أشكال السلطة والتسلُّط (4).
انطوت بعض القضايا الرئيسة في «مدرسة فرانكفورت» على نقد الحداثة والمجتمع الرأسمالي (1)، وذلك من خلال تطبيق ((الماركسية)) -التي انسلخت عنها فيما بعد- على نظرياتٍ اجتماعيةٍ مُتعدِّدةِ التخصصات بتوجيه انتقاداتٍ جذريةٍ وعميقةٍ (2)، وعملت على تعريف التحرُّر الاجتماعي وكشفت عن أمراضه وإشكاليته من خلال التحليل والمعالجة، وتأسست المدرسة مع مفكِّري ومنظِّري الجيل الأول، وهم "ماكس هوركهايمر - 1895-1973 Max Horkheimer"، "ثيودور أدورنو - Theodor Adorno 1903-1969"، "هربرت ماركوزه - 1898-Herbert Marcuse 1979"، "والتر بنيامين - 1940-1892 Walter Benjamin"، "فريدريش بولوك - Friedrich Pollock 1894-1970"، "ليو لوينثال - 1993-1900 Leo Lowenthal" ، و"إريك فروم - (Eric Fromm 1900-1980 (1".
ومن أهم الأسس في «مدرسة فرانكفورت» هو مفهوم ((النقد))، وانطلاقا من هنا تُسمَّى «مدرسة النظرية النقدية - Critical Theory»، إذ أنها اتخذت من الحراك النقدي الذي برزَ في ألمانيا مع مجموعةٍ من الفلاسفة -من أهمهم: الفيلسوف "إيمانويل كانط - 1804-1724 Immanuel Kant" الذي قدّم فلسفةً تقوم على تمييز المعرفة العلمية الصحيحة من المعرفة الميتافيزيقية التي تؤدي بالعقل إلى التناقض، والفيلسوف "جورج فيلهلم فريدريش هيغل - 1831-1770 Georg Wilhelm Friedrich Hegel" الذي قدَّم فلسفةً جعلت من التناقض بذاته جوهرًا لها -ما يسمّى الجدلية الهيغلية (الديالكتيك الهيغلي هنا )- إضافةً إلى أتباعه من (الهيغليين) الشباب-؛ اتخذت نهجًا يُبرِز ((النقد)) كسمةٍ أساسيةٍ في «مدرسة فرانكفورت»، وحاول بعض مفكري «النظرية النقدية» اتخاذَ منحى توفيقيٍّ بين (الفلسفة الكانطية) و(المادية الجدلية) في الماركسية أيضًا (2).
ويرى بعض منظري ((فرانكفورت)) أن المدرسة ما هي إلا فرعٌ من فروع الفلسفة الماركسية من جَرَّاء تأثرهم الكبير بها، مع العلم أنهم -وخاصةً أصحاب النظرية النقدية- لم يتبنوا الفلسفة الماركسية كاملةً، ولم يلتزموا بطرحها المتحوِّر حول نقد النظام الاقتصادي الرأسمالي والأيديولوجيات بصفةٍ عامةٍ، بل تركزت ماركسيتهم على نقد الاغتراب هنا والأسباب الكامنة وراءه في المجتمعات الصناعية التي تعمل على تشييءِ وتسليع الطبقة العاملة والجماهير (2).
ما هي «النظرية النقدية»؟
«النظرية النقدية» تنقسم بين معنى ضيقٍ وآخرَ واسعٍ في تاريخ الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ويُحدَّدُ معناها الضيقُ في حصر «النظرية النقدية» في أجيالٍ عدةٍ من الفلاسفة الألمان والمنظرين الاجتماعيين في التقاليد الماركسية الأوروبية الغربية «مدرسة فرانكفورت». وحسب أولئك المنظرين يمكن التمييز بين «النظرية النقدية» و«النظرية التقليدية» وفقًا للغرض المُحدَّد من النقد: أي تحرير الإنسان من الظروف التي تدفعه إلى حالة الاستعباد والاغتراب، ومن ثَمَّ تعمل على شرح وتفكيك هذه الظروف بوساطة نظرياتٍ نقديةٍ مُتعدِّدَة، وقد ظهرت في اتصالٍ مع العديد من الحركات الاجتماعية التي تحدد الأبعاد المتنوعة لهيمنة البشر في المجتمعات الحديثة، وتوفر «النظرية النقدية» الأسس الوصفية والمعيارية للاستقصاء الاجتماعي الهادف إلى التقليل من حالات الاستعباد وزيادة الحرية بجميع أشكالها، وإن تميزَها يتضح في كونها نهجًا فلسفيًا يمتد إلى الأخلاق والفلسفة السياسية وفلسفة التاريخ (3).
وتكاد أن تكون مقولة (التشيُّؤُ والاغتراب*) إطارًا مرجعيًا لمعظم الأفكار التي يطرحها فلاسفة «النظرية النقدية»، ونواةً مركزيةً يدور حولَها الجانبُ الأكبر في تحليلاتهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي الحديث، وتبرز سمة (الثورية) كواحدةٍ من أبرز خصائصها، إذ أن منظري وفلاسفة «النظرية النقدية» يعبِّرون من خلال هذا النقد عن مطالبتهم بتغيير هذا المجتمع من أساسه تغييرًا ثوريًا لا يقتصر فقط على أشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتنظيماته، بل يمتد إلى بِنية التفكير والمواقف واللغة التي يستخدمها الناس في ذلك المجتمع (4).
واختلفت «النظرية النقدية» عن (الفلسفة الماركسية) التي انطلقت منها بنقاطٍ عدةٍ:
1- ترى (الماركسيةُ) أن الانتقال من شكل النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي يُدفَع بوساطة الفعل الثوري لطبقة العمال والجماهير التي تعمل على تدمير الجهاز السياسي للنظام الرأسمالي واحتكاره للموارد والإبقاء على علو وسائل الإنتاج، بينما ترفض «النظرية النقدية» هذه الرؤية وترى أن التكنولوجيا (من وسائل الإنتاج) تُعَدُّ في حد ذاتها إحدى وسائل القهر، وتمثِّل المجتمعَ الصناعي الذي سيحلُّ محل المجتمع الرأسمالي، وقد برهن الفيلسوف الألماني "هربرت ماركوزه - Herbert Marcuse 1898-1979" ذلك بقوله: "ليس تطبيق التكنولوجيا فحسب، بـل التكنولوجيا نفـسها هـي التي تمثل تسلطًا على الطبيعة والإنسان بطريقةٍ منهجيةٍ علميةٍ ومحسوبةٍ وماكرةٍ، وإن الأهداف والمصالح المحددة لهذا التسلط لا تُدَسُّ في التكنولوجيا فيما بعد ومن الخارج، وإنما هذا يدخل في تصميم بناء الجهاز التقني"، وبهذا ترى «نظرية النقد» أن التكنولوجيا في حد ذاتها إحدى وسائل الاستعباد، وهي تمثِّل الاستخدامَ السيئ للعلم والحضارة (2).
2- ترى «النظرية النقدية» أن العقل هو الوسيلة الأساسية للتحرير، وليس الفعل الثوري وحده الذي تؤكِّد عليه (الماركسية) (2).
3- تؤكِّد «النظرية النقدية» على أن الثقافة الأيديولوجية في المجتمع تؤدي دورًا هامًا ومستقلًا وليس انعكاسًا حتميًا للواقع الاقتصادي، وهي بذلك ترفض فكرة البناء الفوقي والتحتي للـ(ماركسية) (2).
* تعبّر مقولة (التشيّؤ والاغتراب) في أبسط أشكالها عن أن المجتمع والبشر ليسوا في الواقع أكثر من كونهم أشياءَ غيرَ قادرةٍ على تكوين ماهيَّتها وإمكانياتها؛ ذلك لأنهم مغتربون عن تلك الإمكانيات التي تحقّق ماهيَّتهم ووجودَهم واستقلالَهم (4).
المصادر: