مَن يستحقُّ أن يُسمَّى إنسانًا
هل تعلم والإنفوغرافيك >>>> كاريكاتير
نعم، نعم، أكملوا.. أكملوا.. أحسنتم!
نحن نقرأ ونسمع هذا يوميًّا.. وقد نتفهّم بعض التعليقات التي تعبّر عن الملل والضغط النفسي الذي أورثه الوباء حصرًا، لكن لا يمكن أن يتقبّل المرء أبدًا تلك العبارات المتهوّرة اللامسؤولة، ولا يمكن القبول -تحت أي مسوّغ- بالتنمّر الرخيص على المرضى المصابين وبعض التجاوزات والتعدّيات اللفظية والجسدية المُعيبة التي يتعرّض لها الأطباء والطواقم الصحية.. وما لا يقلُّ سوءًا عن هذا هو ما نتلمّسه في كثير من الادّعاءات الخرقاء التي تعبث بالصحة العامة للناس وتتطفل على الخطاب العلمي والطبي الصحيح.. إضافة إلى التصرفات اللامبالية التي لن تزيد هذا الأمر الخطير إلا تعقيدًا وديمومةً..
بدأت جائحة كورونا المستجد تنتشر وتتمدد في العالم منذ شهور، وغدا المرض زائرًا غيرَ مرحّبٍ به وضيفًا ثقيلًا قاتلًا لا يودّ أحدٌ استقباله، لكنّه سلّط الضوءَ بقوّة على جيوشٍ من الأبطال الحقيقيين.. جيوش لا تحمل أسلحة فتّاكة ولا تتفوّه بخطابات الكراهية وإقصاء الآخر.. جيوش تقف في الخطوط الأمامية لمواجهة الوباء وإنقاذ العالقين ببراثن الموت.. فتختصر كل ما تعلمناه عن بسالة المحاربين لأجل العدالة والحرية الإنسانية وتزيد عليها.. جيوش تعلي فكرة الإنسان في حقيقتها المنشودة منذ أقدم العصور.. وتصب في بحار قلوبها كل أنهار الصبر والحب في العالم.. وتمتدُّ فوق مراويلها المُتعَبة مروج تتخطى الأفق من أزهار اللوز والفل والياسمين..
نقرأ في الموروث الشعري العظيم لجلال الدين الرومي بيتَين في "البحث عن الإنسان في معانيه الراقية" يتحدثان عن شيخ يحمل مصباحًا ويتجول في المدائن قد ملَّ من الأشباح والأشرار وحلمه الإنسان، يقول له الناس: "لن تجدَه، لقد بحثنا نحن"، فيقول: "ذاك الذي لا يوجد هو أمنيتي!"..
لو كان الرومي بيننا لوجدَ أمنيته هذه كيف تتجسّد حقيقةً ماثلةً في إنسانية كل طبيبٍ وعامل في المجال الصحي يقف في دائرة الخطر ليؤدّي رسالته السامية في حفظ حياة المرضى وتخفيف آلامهم ومعاناتهم.
إنَّ المسؤولية الأخلاقية اليوم تقتضي منّا جميعًا أن نساند أطباءنا وجميع طواقمنا الصحية؛ بالالتزام الكامل بتعليماتهم، والأخذ بكل أسباب الوقاية الممكنة، والتخلّي عن كل نشاط تواصلي واقعي غير ضروري، والكفّ عن نقل الأخبار المغلوطة والعلاجات الزائفة التي لا تستند إلى مرجعية علمية، وتقتضي منّا أيضًا أن نواجه كل أشكال التهجم والأذى وننأى عنها في كلامنا وأفعالنا، وألّا ندّخر عبارات الدعم والتشجيع وكل فعلٍ يمكنه أن يحمي طواقمنا الصحية ويدعمهم ويعينهم في مهمتهم الإنسانية النبيلة..
ولكلِّ من لا يزال مصرًّا على العبث بصحة الناس دون أدنى إحساس بالمسؤولية أو لا يزال يتنمّر على الأطباء والمرضى؛ ربّما يصحُّ فيه بيت الشاعر سعدي الشيرازي:
"أنت؛ يا مَن لا يهتمُّ لآلام الآخرين.. لا يجوزُ أن تُسمَّى إنسانًا".