التمييز اللغوي؛ كيف تؤثر لهجاتنا في حياتنا؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات العامة
كيف نُدرِك اللهجة؟ وبصيغةٍ أدق، ما الذي تكشفه اللهجاتُ عن شخصياتنا؟
اللهجة هي واحدة من الأشياء الأولى التي يلاحظها علينا أي مُحَاور، فهي تقولُ كثيرًا عنَّا، إذ يمكن للتنغيم أو اللحن الصوتي للمُتحَدِث بلُغةٍ ما أن يُخبرنا عن البلد أو المنطقة التي ينحدر منها، وقد يُشير أحيانًا حتى إلى مجتمع معين داخل الولاية أو البلدية. وتُطلِعُنا اللهجة على الجوانب الثقافية التي تشكل جزءًا من شخصية الفرد، لكنها لا تشير -بأي شكل من الأشكال- إلى مستوى معرفته أو ذكائه أو قدرته أو مهاراته، وهُنا تكمن المشكلة؛ باعتقادنا -في كثير من الأحيان- أنها مؤشر لكل ما سبق (1).
في حين يصرُّ معظم الناس على أنهم لا يعامِلون الأشخاص باختلافٍ على أساس الطريقة التي يتحدثون بها، فإنَّ هناك أدلة متزايدة على أن اللهجات الأجنبية تتعرض للتمييز ضدها. وقد أظهرت الدراسات في السنوات القليلة الماضية أنَّ الشخص الذي يتحدث بلكنة غير أصلية أو أجنبية يجدُ صعوبةً في الحصول على وظيفة، وقد يُنظَر إليه على أنه أقل شأنًا تعليميًّا وأقل جدارة بالثقة.
ومع وجود ما يُقدَّر بنحو 257 مليون شخص يعيشون ويعملون خارج بلادهم الأصلية، فإن هذا التحيز المرتبط باللهجة يُمثل مشكلة كبيرة (3).
لنأخذ اللغة الإنكليزية مثالًا، لنتخيل أننا في محادثة مع ثلاثة أشخاص، أحدهم من أصل بريطاني والآخر أمريكي والثالث أُسترالي. أيٌّ مِن هؤلاء الأشخاص الثلاثة سيبدو -افتراضيًّا- أكثر "ذكاء" أو "ثقافةً" في محادثة ما؟ وفقًا لإحدى الدراسات التي أُجريت في بلجيكا؛ رُبطت عينة مختارة من الأشخاص من ذوي اللهجة البريطانية بالذكاء والهيبة، في حين أن اللهجة الأمريكية كانت أكثر ارتباطًا بالبساطة والصداقة الوثيقة (1).
الشيء الشائك والخطر الذي يجب مُلاحظته هنا هو أن طرائق التفكير هذه ليست ناتجة عما يبدو محدثونا عليه في الحقيقة، بل على العكس من ذلك؛ إنها انعكاس للطريقة التي نراهم نحن بها، فإذا لم نكن على علم بهذا التشعبِ المعرفي، فستكون أدواتنا التي يمكن استخدامها لتجنب تبنّي التحيزات قليلةً. وإذا كانت اللغة هي نفسها (الإنكليزية، كما في المثال أعلاه) فلماذا نضفي قيمة عالية على الطرائق التي ينطق الناس بها؟ تشير اللغوية والمؤلفة الأمريكية روزينا ليبي-غرين Rosina Lippi-Green إلى هذا التسلسل الهرمي باسم "إيديولوجية اللغة القياسية"، ففي هذا السياق يميل الناس إلى الاعتقاد بأن اللغة العامية ذات المكانة الاجتماعية الأعلى هي أكثر الطرائق صحة وصلاحية لاستخدام لغة معينة (1).
أجرت الدكتورة والباحثة في علم اللغة النفسي أليس فوكارت Alice Foucart بحثًا في أثناء وجودها في جامعة غينت في بلجيكا، درسَتْ فيه نشاط الدماغ لدى المشاركين من الناطقين الأصليين بالفلمنكية عند استماعهم للمواطنين الإيطاليين والأمريكيين والألمان والتشيكيين الذين يتحدثون الفلمنكية، وطلبت من كل من المشاركين تقييم مدى كلٍّ من الثقة والذكاء والنجاح الذي بدا عليه المتحدثون وكيف كان شعورهم تجاه هؤلاء المتحدثين وما قالوه (3).
هذا يعني أنه بسماعنا للهجات مُختلفة من اللغة نفسها فإننا نحكم على المهارات اللغوية والذكاء والمعرفة والطبقة الاجتماعية، إضافةً إلى الحكم على شخصية أولئك وقدراتهم ممن يتحدثون باللهجة التي نعدُّها أقل هيبةً، ومن ثمَّ تصنيفِها بأنها أقل صحة أو مصداقية، وهنا على وجه التحديد ينشأ التمييز العنصري على أساس اللغويات (1).
كيف يؤثر التمييز اللغوي في أعضاء المجتمع الأكاديمي؟
وفقًا لدراسة أجراها جيمس إميل فليج James Emil Flege في جامعة ألاباما؛ يستغرق الأمر 30 مللي ثانية فقط للتفوه بكلمة "مرحبًا"، وفي تلك اللحظة الوجيزة يُكوِّن الأشخاص -ممَن يستمعون لنا- أصلًا معلومات عمَّا يُميز لهجتنا، ويبدؤون بتشكيل انطباعات عنَّا، لكنَّ أثر هذه الانطباعات واللقاءات ليس ثابتًا أو أبديًّا؛ بمعنى أن أحكام الناس القيَّمة ليست ثابتة، وقد يكون الناسُ منفتحين على قبول المعلومات التي تتعارض مع تلك الانطباعات الأولى، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن هذا الطريق هو مسارٌ شاق للأكاديميين الذين لا تتطابق لهجاتهم مع المصطلحات المرموقة (1).
ومن الأكاديميين الذين تعرضوا لهذا النوع من التمييز أُستاذ الرياضيات بيتر لاركومب (Peter Larcombe) في جامعة ديربي في لندن، إذ ينحدر لاركومب من منطقة في وسط غرب إنكلترا تُدعى بلاك كانتري (Black country)، وهي أكثر ارتباطًا بصناعة التعدين والفحم من ارتباطها بالأوساط الأكاديمية. وعليه؛ يتحدث لاركومب عن المفاجأة التي تبدو على الناس عندما يكشف عن مهنته، ويصف الصدمة التي تظهر على وجوههم بأنها شيء مزعج، لكن ما يجده مروّعًا هو التفكير المُتحيز الذي يبلغ ذروته في هذه الجملة: "لا يبدو على لكنتك أنك أُستاذ". ليس هنالك رد على هذا التعبير سوى بالاستفسار عن ماهية الطريقة التي يجب على الأستاذ أن يتحدث بها (1).
يرى لاركومب أننا نلاحظ بقليلٍ من البحث وجود جانب أساسي موجود في مجتمع اليوم، إنه مُحَاط بتصورات مُرتبطة بالاختلافات في الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، فعندما يُخبرِك أحدُهم أنك لا تبدو مدرسًا، فإنه يفترض أن مكانك في مصنع -مثلًا- وليس في جامعة. هذه هي العنصرية والطبقية الخفية التي تصيب الأقليات في الأوساط الأكاديمية بالإرهاق الاجتماعي والعرقي بسبب التحدي المستمر لعدم امتلاكها الصفات السائدة نفسها في المجموعات الاجتماعية والاقتصادية في الوسط الأكاديمي (1).
أثبتت دراسات سلوكيات اللغة أن لهجة المتحدث ليست المسبب الوحيد، بل إنَّ عِرقَه يمكن أن يكون مؤشرًا مُهِمًّا على قابلية التوظيف في مقابلة عمل، وقد بحث بعض الباحثين في هاتين الإشارتين العرقيتين؛ اللهجة والاسم، وأظهرت النتائج لاحقًا أنهما قد يكونان مصدرين للتمييز الذي قد يؤدي إلى التصورات والقرارات المتحيزة فيما بعد (2).
كيف نكافح التمييز اللغوي في الأوساط الأكاديمية؟
يتخذ المهاجرون -الذين يجد السكان الأصليون صعوبةً في فهمهم- خطواتٍ للحد من المشكلة؛ إدراكًا لحاجتهم إلى التواصل بوضوح مع المتحدثين باللغة الإنكليزية، ويستثمر العديد منهم الوقت والمال للحد من بروز لهجات لغتهم الأُم، وعلى إثره ازداد التسجيل في فصول متخصصة بالحد من لهجة اللغة الأم على مدى السنوات القليلة الماضية (4).
لكن لاركومب لا يعدُّ بروز اللهجة الأصلية عند التحدث مشكلة، و يقول: "إذا كنت لا أبدو كأستاذ بالنسبة لك، فهذه مشكلتك وليست مشكلتي". ويضيف أن مشكلة اللهجات لا توجد في أولئك الذين يتحدثون بها ولكن في أولئك الذين يستخدمون هذه السمة الخاصة لإصدار حكم عن قدرة الأستاذ أو حقه في الحصول على مكان داخل المجتمع الأكاديمي. ويُدرِك جميع العاملين في التعليم الحاجة إلى وجود مستوى معين يمكن عن طريقه معرفة اللغة واستخدامها، وهذا ما يتطلب احترام المحتوى والاختيار المُناسب للكلمات، لكنه لا يشمل قالبًا مُحددًا للهجة التي يجب أن يُتحدَّث بها. وإذا كانت الكلمات هي ما يحدِّد مستوى معرفتنا وصحة حججنا، فلماذا لا يزال يُعدُّ التنغيم الذي نستخدمه مقياسًا لهذه الميزات؟ لأنها تُظهِرُ أشياء خاصةً بنا، تختلف عن تلك التي يمتلكها مَن يتحدث معنا. وليسَ الصدامُ الثقافي ناتجًا عن التنغيم الصوتي أو اللهجة التي نستخدمها، بل هو ناتج عن رد فعل المتحدث عند سماعه لهذه اللهجة كشيء مختلف وغريب عن المجتمع الأكاديمي. ولا يكمن الحل بتعزيز التنوع في مساحات العمل الأكاديمية فحسب، فهذا الفعل يُتَّبعُ منذ عقود. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة أدت إلى بعض حالات الإدماج والفرص للأقليات في المجتمع، فإنّ هذه النيّة بزيادة التنوّع لم تؤدِّ إلى أي تغيير هيكلي حقيقي إلى الآن، إذ يصبح ضروريًّا تغييرُ طريقة التفكير، ولا يمكن تحقيق ذلك بدون جهد مشترك من قبل الأقليات والفئات ذات النفوذ (1).
التمييز اللغوي ليس سوى جزء واحد من مجموعة كبيرة من التصرفات العنصرية والمنحازة، ومن اللامساواة المجتمعية التي يترتب عليها عواقب اجتماعية وثقافية واقتصادية، وإنَّ مجرد تثقيفِ الناس ليكونوا متعاطفين مع الاختلافات الثقافية في المجتمع الأكاديمي وعَدِّها شيئًا إيجابيًّا لن يَحُل المشكلات الاجتماعية الناتجة عن العنصرية والتمييز الجنسي ورهاب المثلية وغيرها من أشكال عدم المساواة، لكنَّ تقديمَ طريقة طرح جديدة يمكن أن يساعد الأقليات الاجتماعية على الشعور بأنها مجموعات مُرحَّب بها في الأوساط الأكاديمية، إضافة إلى المبادرات والبدء بالحوار واستخدام الآليات اللازمة التي ستفتح الطريق أمام تقدُّمٍ حقيقيٍ أكبر (1).
المصادر: