جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2020
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
مُنِحت جائزةُ نوبل للفيزياء هذا العام 2020 لثلاثة علماء عن اكتشافاتهم أحد أعظم ظواهر الكون، ألا وهي الثقوب السوداء. وقد قُسِمت الجائزة مناصفةً بين الفيزيائي الرياضي روجر بنروز (Roger Penrose) لأعماله النظرية التي أوضح من خلالها أن نظرية النسبية العامة لأينشتاين تؤدّي إلى تكوين الثقوب السوداء، وبين كلٍّ من راينهارد جينزل (Reinhard Genzel) وآندريا غييز (Andrea Ghez) وذلك لاكتشافهما جسمًا غيرَ مرئي هائلَ الكتلة موجود في مركز مجرة درب التبانة، ويحكم حركات النجوم. يعرف هذا الجسم بـ (Sagittarius A)؛ وهو الدليل الأقوى على وجود جسم أسود هائل الكتلة في مركز مجرتنا (1،2).
الثقوب السوداء
كان أول من ناقش فكرة وجود أجسام مظلمة بسرعة إفلات أكبر من سرعة الضوء هما الفلكي والقسّ الإنكليزي جون ميتشل (John Michell) عام 1783، والموسوعي الفرنسي بيير سيمون لابلاس (Pierre-Simon Laplace) في أعماله لعامَي 1796 و1799.
اقترح ميتشل أن نجمًا بمثل كثافة الشمس لكن أكبر حجمًا بنحو 500 مرة سيكون له من الجاذبية ما يكفي لأسر أيِّ شيء في مجال جاذبيته حتى الضوء؛ إذ إن سرعته –وهي أسرع ما في الكون- لن تشفع له بالهروب. وقد أعدَّ لابلاس -مصادفة وعلى نحو مستقلٍّ- حساباته عن الثقوب السوداء، وقدَّم أطروحة رياضية مدعَّمة بكافة التفاصيل الحسابية عن فرضيته بوجود نجم له مثل كثافة الأرض -أي ربع كثافة الشمس-، وأكبر حجمًا من الشمس بنحو 250 مرة. وجاءت حسابات العالمَين دقيقة، فأحجام الثقوب السوداء التي اقترحاها تتراوح ما بين حجم الثقب الأسود (Sagittarius A) وبين الثقب الأسود بقلب مجرّة (M87) الذي ذاع صيته بعد التقاط فريق تليسكوبات أفق الحدث (EHT) صورةً له في نيسان (أبريل) العام الماضي. (3)
تُعدُّ الثقوب السوداء مناطق تحوي قدرًا كبيرًا من المادة المركزة في منطقة صغيرة جدًّا من الفضاء، حيثُ تنهار المادة ناحية نقطة مركزية تُسمَّى "نقطة التفرّد". وعلى مسافة معينة من تلك النقطة توجد منطقة جذب تُسمَّى أفق الحدث تأسر أيَّ جسم يقع فيها، حتى الضوء يدخل بلا رجعة فلا ينعكس من الثقب الأسود مجددًا؛ الأمر الذي يجعل الثقب الأسود غير مرئي.
بعد أن أكمل أينشتاين نظرية النسبية العامة بنحو شهرين؛ نشر العالمُ الألماني كارل شفارتزشيلد حلًّا لمعادلات أينشتاين للمجال، واصفًا انحناء الزمكان حول كتلة كروية متماثلة غير دوّارة.
ربما تظن أن النسبية العامة قدَّمت تفسيرًا وافيًا عن الثقوب السوداء؛ إلا أنَّ النسبية فقط أوضحت أنَّ انحناء الزمكان عند نقطة التفرُّد يصبح لانهائيًّا ولأنَّ هذا غير ممكن عمليًّا؛ فإن النظرية النسبية تكون غير مكتملة، وسيكون العلماء بانتظار نظرية كمّية للجاذبية لفهم طبيعة نقطة التفرّد. (4)
ماذا أضاف علماء نوبل 2020 إلى جهود العلماء السابقين؟
روجر بنروز (Roger Penrose)
بعد اكتشاف الكويزرات (أسطع النجوم في الكون) عام 1965؛ كَثُرت النظريات التي تخصُّ سببَ هذا السطوع العجيب، وذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا السطوع يعزى إلى وميض الأجسام التي تسقط نحو تلك النجوم؛ مما دعا العلماء إلى التقليب في أوراق الماضي، وإعادة فتح الملفات بشأن الثقوب السوداء التي حملت الفكرة نفسها بشأن سحب المواد داخلها. وتعالَت التساؤلات صوب الثقوب السوداء التي ذكرها أينشتاين، هل هي ضرب من الاستنتاجات الرياضياتية النظرية أم هي موجودة في الكون حقًّا؟
هنا برز بنروز بورقته البحثية لعام 1965 -التي بسببها حاز نوبل هذا العام- موضِّحًا أنَّ "التماثل الكروي لا يمكن أن يمنع تكوُّن نقاط التفرُّد الكونية"، وبعبارة أخرى فإن تشوّه النجم لن يحدَّ من استمراره في الانهيار إلى نقطةٍ واحدةٍ.
على عكس السطح الزمكانيّ الطبيعي الذي تتخذُّ فيه خطوطُ الضوء أيَّ اتجاه؛ فإنّ السطح المُحاصَر بجاذبية النجم المنهار -الذي يكون ثنائيَ الأبعاد فقط- يسبّب انحناؤه اتجاه الضوء إلى نقطةٍ مركزية واحدةٍ ليس إلا.
اكتشف عالمُنا "بنروز" أنّ أبعاد المكان والزمان تتبادل الأدوار فيما بينها داخل حدود السطح المُشوّه، بمعنى أنه حتى الزمن يتجه إلى النقطة نفسها التي تتجه إليها خطوط الضوء، فيظلُّ مُحَاصَرًا داخل الثقب ولا يغادره أبدًا.
بعد ذلك وبمشاركة ستيفن هوكينغ؛ اكتشفا أن الأمر برمّته يمكن أن ينطبق على الكون بأكمله إذا ما توافرت الظروف، أي إنه في وقتٍ ما بعد الانفجار العظيم وحين تكثّفت المادة والطاقة بما فيه الكفاية، وُجِدَت نقطة تفرّد انبثق من خلالها الكون. (3،4)
راينهارد جينزل (Reinhard Genzel) وآندريا غييز (Andrea Ghez)
عام 1931؛ اكتشف العالِمُ كارل جانسكي (Karl Jansky) انبعاث موجات راديو من مركز المجرّة، من جهة التجمّع النجمي المعروف باسم (Sagittarius)، ثمّ جاء كلٌّ من العالمَين بروس باليك (Bruce Balick) وروبرت براون (Robert Brown) عام 1974 وشخّصا الجسم في مركز المجرّة الذي عُرِفَ وقتها بـ (Sagittarius A).
جاءت ملاحظات أخرى في التسعينيات لتكشف المزيد عن هذا الجسم الغريب، وأثبتت أنّه فائق الكتلة، إلا أنّنا احتجنا إلى تكنولوجيا أحدث ومعدّات أوفر من أجلِ التأكد من أنّه "ثقب أسود"، وهنا جاء دورُ علمائنا.
تعقَّب جينزل وغييز حركات النجوم التي تتذبذب قرب الجسم (Sagittarius A) ووضعا افتراضاتهما:
لو كان هذا الجسم مجرّد كتلة ممتدة من المادة؛ فسوف تُسحب النجوم القريبة تجاهه ولن يكون بالإمكان تحديد مداراتها. أما إذا كان ثقبًا أسود؛ فسوف تخفق النجوم بسرعاتٍ هائلة.
في فترة التسعينيات؛ افتقرت التلسكوبات الموجودة إلى الدقة المكانية (spatial resolution) اللازمة لتعقُّب حركات النجوم في وجود الغلاف الجوّي للأرض، وهو الذي بدورِهِ سبَّبَ التشوّش. ولكن جينزل وغيير أتَيَا بتقنية جديدة تُسمّى (speckle imaging)، وهي تقنية تتضمن تجميعًا للَقَطات مختصرة، اللقطة الواحدة منها قصيرة كفاية لتجنُّب أيِّ تشويش قد يُحدثه الغلاف الجوي على دقة البيانات. ثمّ استخدما تقنية أحدث قليلًا، وهي (adaptive optics) لرفع دقّة المراقبة، وتوجه تلك الخاصية شعاعًا من الليزر في السماء ليعمل كأنّه نجم، ومن ثمّ تراقب التليسكوبات هذا النجم الاصطناعي، وترصد ضوء الليزر القادم من السماء والمُشتَّت بواسطة الغلاف الجوي للأرض. ولأنّنا نعلم الموقع الفعلي للنجم الاصطناعي –شعاع الليزر-؛ فنقارن هذا الموضع بالموضع الذي رصده التليسكوب، ومن خلال المقارنة يمكننا أن نحرِف من مرآة التليسكوب لنجعل الموضع الذي تسجِّله المرة القادمة غير خاضع لتأثير الغلاف الجوي.
راقب فريقا جينزل وغيير النجمَ S2 الذي طاف مداره قرب (Sagittarius A)، وفي بداية القرن الحادي والعشرين؛ جمعا بيانات لنجوم أخرى قرب الثقب الأسود، وأوضحت قياساتهما أن حجم الجسم (Sagittarius A) أقل من المسافة بين الأرض والشمس 125 مرة، على الرغم من أن كتلته تبلغ 4 ملايين مرة ضعف كتلة الشمس.
قُضِيَ الأمرُ، نحنُ الآن اكتشفنا وجود ثقب أسود، وحدَّدنا مكانه أيضًا.. مرةً أخرى أينشتاين كان محقًّا! (4)
الغريب في الموضوع أنّ أينشتاين نفسه لم يكن مؤمنًا بوجود الثقوب السوداء في الحقيقة، كان يتبرأ من إمكانية أن تقود النسبية العامة إلى إثبات ذلك. (5) لم يعلم أينشتاين أن بعد وفاته بسنوات عشر فقط؛ سيأتي بنروز ليثبت أنّ النسبية العامة تقود لا محالة إلى إثبات وجود الثقب الأسود، ولم يعلم أن الجهود ستتوالى من بعدها وتكتشف وجود الثقب الأسود فعلًا.
أبحاث امتدَّت على مدار نحو 60 عامًا تُكلَّل الآن بنوبل، ونصبح محظوظين لأنّنا شهدنا تلك الفترة.
المصادر: