العقل اللاواعي
علم النفس >>>> القاعدة المعرفية
والاسم الأبرز عند الحديث عن اللاوعي سيغموند فرويد، فهو صاحب الفضل في نشر مفهوم العقل اللاواعي على نطاقٍ واسع، وهو الذي أحرز تقدمًا مهمًا في فهمنا العقل اللاواعي، بدأ ذلك بمريضة اسمها دورا، كانت تعاني من شللٍ في الذراع، تعافى هذا الشلل عندما استرجعت مشاعرَ وذكرياتٍ مرتبطةً بذراعها من الطفولة (2)، فُتح حينها البابُ أمام فرويد لدراسة مرضى الاضطراب التحويلي، وأشار فرويد إلى أن معظم العمليات العقلية لاواعية، وأنّ وعينا في الحقيقة ليس أكثر من قمة جبلٍ جليدي تُخفي الماء جلَّه (2).
ووضع فرويد مصطلح «تحت الشعور» مشيرًا إلى الأفكار غير الموجودة في نطاق الوعي، لكن يمكن استحضارها بسهولة لأنها غير مكبوتة، ويتألف اللاوعي (وفق النموذج الفرويدي أيضًا) من عمليات ديناميكية ذاتية التفعيل لا يمكن للتأمل الذاتي (الاستبصار) اكتشافها، منها عمليات التفكير(مقابل الأفكار) والرؤى البديهية والعمليات الإجرائية المعقدة (تنفيذ العمليات الحركية المتسلسلة لأداء غاية ما مثل الطباعة على لوحة المفاتيح) التي ينفذها الإنسان بصورة شبه تلقائية وغير واعية (3).
يعمل المستودع اللاواعي طوال الوقت، وفي الحقيقة يرى الإنسان بواسطة «عينه» اللاواعية عبر افتراضاته اللاواعية عادةً دون أن يدرك ذلك، ويؤثر اللاوعي بقوة في توجهاتنا وأعمالنا وأفكارنا وإدراكنا (3).
أدرك فرويد أن اللغة التي يستخدمها اللاوعي تختلف عن لغة الوعي، لكنه لم يُقدّر أن العمليات اللاواعية في كثير من الظروف أكثر سرعة وفعالية في مكاملة المُدخَلات الحسيّة والإجراءات التكيفية من تلك الواعية (3)، ويساعد اللاوعي الإنسان على العيش في بيئة تتطلب تلقي كميات كبيرة من المعلومات ومعالجتها على نحوٍ سريع، ويعرف هذا الجزء من العقل اللاواعي بالعقل اللاواعي التكيفي لتمييزه عن اللاوعي الذي يضم الذكرياتِ والمشاعر المكبوتة التي تُعيق الإنسانَ حالَ شغلت الوعي؛ أي فحوى التحليل النفسي الفرويدي.
يعالج اللاوعي أحداثَ الحياة خلالَ مدة زمنية طويلة أو قصيرة، ويعمل اللاوعي جنبًا إلى جنب مع الوعي مع حواجز نفسية بينهما تدعى «دفاعات».
درس فرويد مرضى الحبسة الكلامية، ولاحظ حينها أن الإنسان لا ينتقي الكلماتِ التي يستخدمها أو البنى القواعدية اللغوية عند الكلام، وأنه يفهم فحوى الكلام فحسْب، ولا يعرف الجملَ التي سيستخدمها إلا بعد أن يستخدمها، فاستخدام اللغة ينطوي على عمليات معقدة جدًا تجري بسرعة وفعالية في الدماغ، ويُظهِر هذا المثال الكمَّ الهائل من المعلومات التي يعالجها العقل اللاواعي (3).
المقاربات المعاصرة التي تدرس العقل اللاواعي متنوعة للغاية، ففي علم النفس المعرفي، يُساوى بين معالجة المعلومات بصورة لاواعية ومعالجة المنبّهات تحت الشعورية، ما يجعل السؤال الرئيس الذي تتمحور حوله هذه الدراسة: ما مدى قدرة العقل على استخلاص المعنى من منبهات لا يُدركها على نحو واعٍ؟ ولأن المنبهات تحت الشعورية ضعيفة نسبيًا وتخضع لمعالجة محدودة وصلت هذه الدراسات إلى نتيجة مفادها أن العقل اللاواعي محدود و«أحمق» (1).
يقارب علم النفس الاجتماعي اللاوعي من زاوية مختلفة؛ إذ يدرس تقليديًّا العملياتِ العقليةَ غير الواعية لا المنبهاتِ غيرَ الواعية، وركّزت هذه الدراسة خلال الثلاثين سنة الماضية على مدى إدراك الناس لتأثير اللاوعي الكبير في قراراتهم وأحكامهم وسلوكهم، وقاد ذلك إلى نظرة مختلفة عن تلك السابقة؛ إذ وَجد أن اللاوعي نافذٌ ومؤثرٌ بقوة على مثل هذه العمليات العقلية العليا (1).
تتحكم الجينات بسلوكنا عبرَ الدوافع، ويظهر تأثيرَ الوراثة في الاستراتيجيات التي نتبعها لنصل إلى غاية ما انطلاقًا من أي موقع جغرافي وزمن، وتُظهر الدراسات الحديثة أنّ سعي العقل اللاواعي إلى غاية ما سيؤدي إلى نتيجة مماثلة لسعي العقل الواعي، ويؤدي التفعيل اللاواعي لمفهوم الغاية إلى توجيه التفكير والسلوك نحو الغاية في فترة زمنية طويلة، نظرًا إلى أن التفكير الواعي ظهر متأخرًا في الخط الزمني للتطور، ومن المرجح أنه تطور معتمِدًا على بنى دافعية غير واعية موجودة قبله (1)، والغاية في اللاوعي ذات طبيعة مفتوحة؛ لأن الإنسان يعيش في بيئة متغيرة لا يمكنه تنبؤ أحداثها بدقة؛ لذا يتفعل الدافع عند التعرض لأي منبه متعلق بالغاية. يظهر هذا الجانب مرونةَ اللاوعي ويدحض فكرةَ «اللاوعي الأحمق» (1).
وتعد فكرة «الفعل يسبق التفكير به» ليست بجديدة؛ إذ ترى نظريات متعددة أنَّ العقل الواعي ليس مصدرًا للسلوك، على العكس رأت هذه النظريات أنَّ الاندفاع للفعل ينشأ في اللاوعي وينحصر دورَ الوعي في حراسته والشعور به، وفقًا لهذا النموذج تتفعل العمليات الواعية بعد أن يحدث الاندفاع على نحوٍ لاواعي، ثم يتبنّى الوعي هذا الحافزَ أو الاندفاعَ ويختبره كأنه صادرٌ عنه.
تنشأ اندفاعات سلوكية متعددة في وقت واحد في اللاوعي تحكمها دوافعنا وتفضيلاتنا والسياق الاجتماعي والتجارب السابقة وغيرها، ولأنها اندفاعات متعددة سيظهر التضاد بينها حتمًا.
في المراحل الأولى للحياة تكونُ الاندفاعات طليقةً دونَ كبت، ثم يتعلم الدماغ كبحَ بعضها عبر التجارب (1).
فمثلًا في الفترة الأولى من الحياة سيلتهم الطفل الطعامَ الموضوع أمامه إن كان جائعًا حتمًا، وفي المستقبل تنشأ رغبات مُضادة (لا تأكل الحلوى)، لذا عند جلوسه أمام قطعة الحلوى ستندفع في لاوعيه (ثم في وعيه) فكرتان (كُلْ ولا تأكل)، وإذا كانت الخبرات السابقة كافية يمكن عندها للطفل أن يُوقَف (برنامج) الأكل ويمتنع عن الحلوى، لكن هذا الامتناع سلوكي فحسب، بينما تبقى الفكرة المضادة في وعيه لتسهم في «محاكاة عقلية» يرسم العقل خلالها سيناريو محتمل للنتيجة التي كانت ستحدث لو اختار (تناول الحلوى) بناءً على خبرته، والهدف أن يتمكن من تنبؤ نتيجة الفعل افتراضيًّا دون أن يضعه حيزَ التنفيذ ويتعرض للخطر، ويقترح بعض الباحثين أن وظيفة الذاكرة الصريحة الواعية محاكاة المستقبل ونتائج الأفعال المحتملة (1).
المصادر:
2. Oschman J, Pressman M. An Anatomical, Biochemical, Biophysical and Quantum Basis for the Unconscious Mind. International Journal of Transpersonal Studies,. 2014;33(1):77-96. Available from: هنا
3. Tsikandilakis M, Bali P, Derrfuss J, Chapman P. The unconscious mind: From classical theoretical controversy to controversial contemporary research and a practical illustration of the “error of our ways”. Elsevier [Internet]. 2021 [cited 5 January 2021];74. Available from: هنا