أرياف اليوم؛ تأثُّرٌ بالمدن وفقدانٌ للهوية
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا الريفية
مثَّلت الزراعة في الماضي العمل الأساسي في المناطق الريفية، لذلك تميَّز النمط العمراني في الأرياف بتوزع أبنية المزارعين بكثافات وتوضعات متفاوتة، ولكن مع استمرار تطور الاقتصاد أصبحت الأرياف تمتلك بنى تحتية أفضل؛ ممَّا أدى إلى تطور النشاطات الاقتصادية على حساب النشاطات الزراعية، وترافق كلُّ ذلك مع زيادة التحضر والاهتمام بطريقة الحياة الحضرية، وكانت النتيجة تغير الطريقة التي تُبنى بها الأرياف في البنية والمظهر (1).
وقد شكَّلت الأرض الأساس المادي للحياة البشرية وغاية النظام الريفي، ولكنَّ تحول الأرياف أدى إلى حدوث التغيرات في الأراضي الزراعية والأراضي المخصَّصة للبناء؛ وهما المظهران المتضادان اللذان يحتضنان الحياة البشرية والإنتاج البشري. وتطلَّب التوسع في البيئات الحضرية الكثير من الأراضي التي كانت تستخدم للزراعة وذلك قبل تشريع حمايتها، وقد أثَّر تحول الأراضي على نحوٍ كبير في التنمية الريفية مع ارتفاع ثمن الأراضي الزراعية، وعزَّز هذا التحول أيضًا عملية تحول الأرياف؛ إذ انخفضت جودة الأراضي الزراعية (2).
أدى الضغط من المستثمرين الجدد إلى زيادة عمليات التحول في البيئات الطبيعية وظهور صراعات جديدة بين الزراعة وبناء المساكن، وانخفضت مساحة الأراضي الزراعية على نحوٍ متزايد؛ إذ بنيت المساكن فيها بمجرد إخراجها من الإنتاج الزراعي، ممَّا أدَّى إلى تجزئة الأراضي إلى قطع بناء صغيرة وتشوية النظام البيئي والتدمير المستمر للمناظر الطبيعية (1).
فما عواقب تجزئة الأراضي والتدمير المستمر للمناظر الطبيعية الريفية؟
تشكل الأنماط المعمارية للمجتمعات المحلية وطريقة توزيع الأراضي جزءًا مهمًّا من التراث الثقافي في المناطق الريفية، ويتكون هذا التراث ممَّا توفره الطبيعة من المناطق ذات البيئة القيمة أو المناطق المستخدمة للزراعة، والمساهَمة البشرية في تنظيم الأراضي وتنميتها وفقًا لنمط الحياة المحلي، فقد كانت المسافة بين القرى في أوروبا -على سبيل المثال- تتراوح بين 3 إلى 5 كم لاستغلال الأراضي بينها في العمليات الزراعية لتأمين الاحتياج الغذائي لهذه القرى، ولكنَّ العديد من أراضي هذه القرى متداخلة اليوم، إضافةً إلى الظهور المتزايد للعناصر الحضرية في المناطق الزراعية. وقد أدى التطور المستمر في النقل والمناطق الحضرية إلى ظهور مناطق جديدة لا يمكن تصنيفها تصنيفًا حضريًّا أو ريفيًّا وفقًا للمفهوم التقليدي، وأدت هذه التغيرات الجديدة إلى تحول التنظيم المكاني للمناطق الريفية والتغير في عمارتها والمجتمعات المحلية فيها والمناظر الطبيعية، فأصبحت هذه المناطق الريفية تضم تجمعات سكنية حديثة ذات طابع حضري ومظاهر حضرية جديدة في نمط الحياة المختلف عن النمط التقليدي والثقافي لهذه المناطق (3).
فما الذي يجعل المزارعين وسكان المناطق الريفية يميلون إلى الاستعارة من مظاهر ونمط الحياة الحضرية؟
نظرًا لعدم توفر المواد والتكنولوجيا، عادةً ما تُبنى المنازل بطريقةٍ بدائية تُنتِج بيئة ومرافق متواضعة وتترافق غالبًا مع نمط حياةٍ بسيط، ولكن مثل هذا السكن غير قادر على تحقيق آمال المزارعين الذين يطمحون إلى نمط معيشةٍ أكثر حداثة.
ومن أجل تحسين الظروف المعيشية للمزاعين، طُوِّرت المنازل في قرية (Piaojiagou) الصينية في دراسةٍ أُجريت في هذه القرية، واستُخدِمت منازل تتميز باعتمادها على التكنولوجيا ومواد البناء الحديثة وأساليب استهلاك الطاقة الحديثة، لكن نتيجة الاستهلاك الكبير للطاقة واستخدام الموارد غير المتجددة شكَّلت تكلفة البناء والصيانة أعباء إضافية على المزارعين، وفقدت هذه المنازل النمطية الريفية التقليدية (4).
وفي النهاية لا بُدَّ من جعل التحولات في المساكن والأراضي الريفية موجهةً بطريقةٍ مدروسةٍ وممنهجةٍ ومستدامة للحفاظ على البيئة والتراث الثقافي الريفي وبما يضمن تأمين متطلبات سكان هذه الأرياف ويواكب التطور في نمط حياتهم.
المصادر: