أثر الحيّ والأحياء المحرومة
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا الحضرية
يؤثر عدم المساواة مباشرةً في أنماط التحضُّر أو التمدُّن؛ إذ يقطن الأغنياء في معظم البلدان بمعزل عن الفقراء، في حين يعيش الفقراء في الأحياء الأكثر حرمانًا مكافحين من أجل الوصول إلى المأوى المناسب والخدمات الأساسية، كالمياه والصرف الصحي، وتشتدُّ حدَّة المرض وعبء العمل -خاصةً على النساء والأطفال- عندما يقترن افتقار الخدمات الأساسية مع إشكاليات السكن المؤقت أو المكتظ، ممَّا يجعل ساكني الأحياء الفقيرة يشغلون معظم يومهم بالتعامل مع مشكلات البقاء على قيد الحياة. ويمكن القول إن كان الحي يعكس سمات الفقر فإنَّ معظم الأسر داخل هذا الحي تعكس ذلك أيضًا، على الرغم من أنَّ ذلك لا ينطبق على جميع البلدان والمناطق؛ إذ وُجِد في العديد من البلدان أنَّ مساكن الأحياء الفقيرة قد تكون مساكن فردية في أحياء مختلفة، وقد تكون أيضًا ضمن المناطق ذات الخدمات المتوفرة أو ضمن المناطق ذات الدخل المتوسط أو المرتفع (1).
فهل يُعَدُّ التفاوت بين الأحياء مشكلة في المناطق الحضرية؟
يُعَدُّ تفاوت الأحياء وعدم تجانسها في المناطق الحضرية أمرًا مطلوبًا لتأمين بيئاتٍ سكنيةٍ مناسبةٍ ومرغوبة لفئات السكان المختلفة من جهة، ولتوفير المساكن التي تتوافق مع قدرات السكان المالية من جهة أخرى، ولكن عندما يصبح هذا التفاوت صارخًا تظهر مجموعة من العواقب السلبية (2).
كيف تظهر هذه الفوارق؟
يمكن أن تظهر الفوارق بين الأحياء المحرومة وغير المحرومة عن طريق السمات الطبيعية للحي مثل الوصول إلى المنشآت الخدمية أو المساحات الخضراء، أو السمات المدركة مثل الارتباط العاطفي بالحي أو الأمان المحسوس (3)، وفي حين أن خصائص الحي ترتبط بحسن العيش، فقد افتُرض وجود تأثير سلبي محتمل في فرص الحياة وحسن العيش نتيجة السكن في الأحياء المحرومة، وعُرِفت هذه الفكرة بما يسمى أثر الحي (Neighbourhood effect) وحظيت باهتمامٍ متزايد من الباحثين (3,4)؛ إذ قد يساعد فهم هذا التأثير في دعم اتخاذ القرارات التي تقلل من عدم المساواة المجتمعية.
ويؤثر الحي في فرص الحياة والمعيشة عن طريق آليات عدة:
- آليات التفاعل الاجتماعي التي تتعلق بتأثير الأقران في سلوك الفرد وتوجهاته أو الأنماط الاجتماعية الشائعة والترابط الاجتماعي.
- آليات بيئية كالتعرض للهواء أو الماء الملوَّث، والظروف الإيكولوجية للبيئة المحيطة والتي تتضمن التعرض للعنف، أو حتى الظروف الطبيعية (الفيزيائية) المحيطة مثل جودة المساحات العامة والتلوث الضوضائي.
- آليات جغرافيَّة تشير إلى موقع الحي بالنسبة إلى الهيكلية الاقتصادية والسياسية في النطاق الأوسع.
- آليات مؤسساتية تشمل التفاعل بين سكان الحي والأسواق الفاعلة المرتبطة بالظروف الطبيعية في الحي، إضافةً إلى المراكز التعليمية والصحية وغيرها من المؤسسات التي يمكن لسكان الحي الوصول إليها، وسمعة الحي والوصمة التي تترافق مع المناطق التي تتضمن مجموعة ذات طابع معين أو خلفية عرقية معينة (5,6).
تفاوتت نتائج الدراسات التي تناولت أثر الحي والآليات المتداخلة من وجهات نظر مجالات العلوم المختلفة؛ الاجتماعية والاقتصادية والصحية والحضرية، متضمنةً محاولات عدَّة لفهم هذا التأثير وتحديد العوامل الأكثر تأثيرًا.
ففي الدراسات التي عُنيت بأثر الحي في العمل والبطالة وعلاقته بالأحياء المحرومة، وُجِد أنَّ تأثير الحي يؤدي دورًا إضافيًّا صغيرًا فقط يُضاف على سمات وظروف الأشخاص أنفسهم، وعلى الرغم من ذلك فقد أشارت هذه الدراسات إلى أنَّ أثر الحي يمكن أن يفاقم مشكلات البطالة على نحوٍ ملحوظ عن طريق التأثير المباشر لسمات ساكني الحي وخصائص المكان في درجة الانعزال النسبية (7). وأشارت نتائج دراسة أخرى أجريت في المملكة المتحدة وتناولت الشبكة الاجتماعية للأفراد والسكن في الأحياء المحرومة، إلى أنَّ العيش في الأحياء المحرومة وحده لا يعيق الفرد من دخول سوق العمل، بل العيش فيها مع الأصدقاء المحيطين من البيئة نفسها (8).
ومن ناحية أخرى اقترحت بعض الدراسات أنَّ نشأة الأطفال في الأحياء المحرومة قد يكون لها تأثير سلبي طويل الأمد في حُسن العيش (3)، وقد نال تأثير الحي اهتمامًا كبيرًا أيضًا في علوم الجريمة من قبل الباحثين وتزايدت الدلائل التي تدعم وجود هذا التأثير في الجريمة وتصوّراتها (9).
أمَّا من الناحية الصحية فكانت المفاهيم التي تناولت الدور الذي يؤديه الحي في تفسير عدم المساواة المكانية محدودة (10)، وكانت نتائج مقاييس حسن العيش مثل الصحة الجسدية والنفسية في الأحياء المحرومة أقل إيجابية وفقًا لدراسات عدة (3)، في حين أفادت دراسة عُنيت بالآثار الصحية للعيش في الأحياء غير المنظمة في حلب في سورية عند النساء والرجال أنَّ العيش في الأحياء غير منظمة توافق مع مستوى صحي أفضل عند للنساء (11).
نقد فكرة أثر الحي واستخدامه بوصفه وحدةً مساحيةً في الدراسات:
توالت الدراسات التي تناولت نقد أثر الحي ضمن مختلف المجالات مؤكدةً أنَّ فكرة تأثير الحي في إنتاجية الفرد أصبحت موضع جدلٍ كبيرٍ في الوقت الحاضر(2)، فعلى سبيل المثال ألقى العديد من الباحثين الضوء على مشكلة انحياز الاختيار (Selection bias) في الدراسات التي أشارت إلى تصاحب الآثار السلبية مع وجود السكان في الأحياء المحرومة؛ فقد يختار الناس أو يُجبرون على السكن في أحياء معينة (9).
وعلى الرغم من أنَّ بعض الدراسات قد وجدت أنَّ مستوى حسن العيش المنخفض في الأحياء المحرومة يبقى موجودًا حتى بعد أخذ الحالة الاقتصادية والاجتماعية للفرد بالحسبان، أُثير الجدل حول أنَّ ميل تسجيل مستويات منخفضة في نتائج حسن العيش عند البالغين من ذوي الدخل والتعليم المنخفض ناتجٌ عن حرمانٍ فرديٍّ مرتبطٍ بأنماط الحياة غير الصحية أو الفرص الأقل للرعاية الصحية الجيدة أكثر من كونه نتيجةً للسكن في الأحياء المحرومة؛ إذ يعيش الفقراء في تجمعاتٍ في الأحياء المحرومة فلا يمكنهم تحمل نفقات العيش في الأحياء الجيدة، ونتيجة أنَّ الفقراء يسجلون مستويات أقل في حسن العيش، فإنَّ متوسط حسن العيش في الحي المحروم سيكون أقل (3).
ومن المشكلات الرئيسية الأخرى في فهم السياق المكاني في دراسة أثر الحي؛ العلاقة المعقَّدة بين المكان والسكان، والمشكلات المتعلقة بتحديد حدود الحي والعلاقة بين الحي والأحياء الأخرى (6).
أبعاد مستقبلية:
اقترحت الدراسات الحديثة نسبيًّأ أنّ إعادة توجيه مفهوم الحي في فكرة أثر الحيّ يجعل تأثير السياق المكاني يتطابق أكثر مع آليات هذا التأثير، أي أنَّ تداخل المكان مع مقاييس مكانية متعددة يمكن أن يعالج المشكلات السابقة بكفاءةٍ أكبر من وحدةٍ مساحيةٍ محدَّدة كالحي (6)، ومن الجدير بالذكر أنَّ تأثير الحي قد يختلف من بلدٍ إلى آخر ومن منطقةٍ إلى أخرى، وأنَّ اعتماد نتائج الدراسات من مكان ما لفهم المشكلات في مكان آخر أمر غير كافٍ، فقد أكَّد الباحثون عدم جدوى دراسة مكانٍ ما باستخدام الأدوات التحليلية المأخوذة من غيره (2).
ولعلَّ غياب دراسات الأحياء عن الكثير من المناطق يطرح تساؤلات عن تأثير الحي في المناطق غير المدروسة مسبقًا، خاصةً في المناطق التي تخضع لظروف خاصة كالصراعات وما يترتب عليها من تدني الخدمات الأساسية على نطاق جغرافي واسع، ويمكن أن يكون المقياس الجديد المقترح فرصةً مهمةً لمواكبة فكرة تأثير الحيِّ في السياق "الاجتماعي - المكاني" الأوسع، وتخطي الفجوة المعرفية في دراسة البيئة المحيطة في الفرد، وتقديم حلول أفضل للتقليل من الآثار السلبية في المناطق غير المدروسة سابقًا.
المصادر: