ناغورنو قره باغ - الصراع بين أرمينيا وأذربيجان
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا السياسية
قبل أن نتحدَّث عن ناغورنو قره باغ (Nagorno-Karabakh)، دعونا نتعرَّف كيف وصل الأمر إلى الوضع الحالي.
يمكن النظر إلى أرمينيا التاريخية بوصفها نواة إقليمية امتدت إلى حدود شديدة التنوُّع على مر القرون، ومرَّت بعض الأوقات التي لم يكن لأرمينيا فيها سيادة مستقلة على الإطلاق، وقد تنقَّلت مجموعات عرقية عدَّة على نحوٍ كبير وبأعداد كبيرة عبر أراضي القوقاز، ممَّا جعل من الممكن لجيران الأرمن سواء كانوا جورجيين أو أذربيجانيين أو أتراك (في فترة التاريخ الحديث) أن يتجادلوا معهم حول أحقِّية مطالبات حدودية معينة (1).
Image: Bourrichon on wikimedia
الشكل (1) - خريطة طبوغرافية لمنطقة القوقاز
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ التجسيد الإقليمي للأمة الأرمينية كان متجذِّرًا في منطقة تغطي بعض الأراضي التي تُعرف الآن باسم أرمينيا الغربية وأرمينيا الشرقية، وقد قُسِّمت هذه المنطقة على نحوٍ مأساويٍّ بين إمبراطوريتين تمتَّعتا بأهمية كبيرة في القرن التاسع عشر هما تركيا وروسيا، وأدَّت المضايقات المستمرَّة للأرمن على مرِّ القرون إلى هجرتهم إلى مناطق مختلفة في القوقاز؛ مثل تبليسي (Tbilisi) عاصمة جورجيا حيث شكَّلوا أغلبية في القرن التاسع عشر، وإلى مناطق أبعد من ذلك في العالم. ولكن أدَّت سياسة طردهم في تركيا من المنطقة المعروفة باسم أرمينيا الغربية -التي كانت تحت حكم تركيا- والعداء العام ضدهم في أوقات معينة إلى مذابح واسعة النطاق للأرمن بين عامي 1894م و1896م (1)، وتعرَّض الأرمن لإبادة جماعية في العام 1915م (1,2)، ممَّا أسفر عن مقتل مليون أرمني على الأقل (3).
أصبحت كلٌّ من أرمينيا وأذربيجان جزءًا من الاتحاد السوفيتي في العام 1920م، وذلك حتى العام 1991م واستقلالهما عنه (3,4).
وقد حدثت العديد من الاضطرابات القومية داخل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وتركَّزت معظمها في الجمهوريات غير الروسية الواقعة على امتداد محيط الاتحاد السوفيتي، وحظيت المظاهرات الحاشدة والاشتباكات العنيفة في جمهوريات القوقاز -أرمينيا وأذربيجان وجورجيا- باهتمام خاص، إذ نجم الصراع الأكبر عن نزاعٍ إقليميٍّ طويل الأمد بين الأرمن والأذربيجانيين حول المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي لمنطقة ناغورنو قره باغ؛ وهي منطقة مستقلة وقعت بالكامل داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية وسكنتها أغلبية أرمنية، وقد هاجر العديد من الأرمن إلى منطقة القوقاز بعد حروب روسيا مع بلاد فارس وتركيا، ويعود تاريخ أول اشتباك أرمني أذربيجاني كبير إلى العام 1905م في مدينة باكو (Baku) -عاصمة أذربيجان حاليًّا- المختلطة عرقيًّا على بحر قزوين، ثمَّ تفاقمت الاختلافات الثقافية والدينية بعد ذلك بسبب عداء الأذربيجانيين المحليين، الذين كانوا إلى حدٍّ كبير من خلفية ريفية، نحو الأرمن المتمدِّنين والأكثر ثراءً، وبسبب محاولات الإدارة القيصرية الروسية استغلال العداء الأرمني الأذربيجاني في ذلك الوقت أيضًا؛ إذ كان الأرمن المسيحيون مفضَّلين على الأذربيجانيين المسلمين من قبل النظام القيصري المسيحي في القرن التاسع عشر، ولكن سرعان ما امتدَّ النزاع وتجاوز مدينة باكو، وأدَّى العنف الطائفي إلى مقتل عدة آلاف من الأرمن والأذربيجانيين (5).
في فترة الاضطرابات في الحرب العالمية الأولى، حصلت أرمينيا وأذربيجان على الاستقلال لفترة وجيزة، وعلى الرغم من ذلك جعلت التركيبة السكَّانية المعقَّدة لمنطقة القوقاز إنشاء دول متجانسة إثنيًّا أمرًا مستحيلًا، وانتقل الصراع الأرمني الأذربيجاني من باكو إلى المنطقة المعروفة باسم ناغورنو قره باغ حيث شكّل الأرمن في ذلك الوقت الغالبية العظمى؛ أكثر من 90 ٪ من السكان، وقد هاجر العديد منهم إلى هذه المنطقة في القرن التاسع عشر من تركيا وإيران،و كانت هذه المنطقة الجبلية الأرمنية الواقعة في العمق الأذربيجاني مفصولةً عن بقية شرق أرمينيا، ووقع عليها نزاعٌ عنيف في الفترة القصيرة لاستقلال دول القوقاز (5).
اختار سكَّان هذه المنطقة أن يكونوا ضمن أرمينيا، وبعد بدء الحكم السوفيتي في منطقة القوقاز في العام 1920م، قرَّرت السلطات الثورية الجديدة في البداية وضع ناغورنو قره باغ وناخيتشيفان (Nakhichevan) -وهي منطقة أخرى متنازع عليها ذات أغلبية أذربيجانية- تحت الإدارة الأرمينية، لكنَّهم عكسوا هذا القرار في العام 1921م، ووضعوا كلا المنطقتين تحت الإدارة الأذربيجانية (5)، وفي العام 1923م اعترفت موسكو بأنَّ ناغورنو قره باغ إقليمٌ يتمتَّع بالحكم الذاتي داخل أذربيجان السوفيتية (4,5)، وحدث المثل لمنطقة ناخيتشيفان في العام 1924م (5).
وعلى الرغم من أنَّ الأسباب القضائية لهذا التغيير ليست واضحة تمامًا، لكن يمكن أن تكون التطورات في العلاقات السوفيتية التركية قد أدَّت دورًا معيَّنًا، لأنَّ تركيا زمن حكم كمال أتاتورك كانت من أوائل وأقرب حلفاء روسيا السوفيتية، وقد يكون تخصيص ناغورنو قره باغ وناخيتشيفان لأذربيجان بمثابة تنازل سوفيتي للدولة التركية الجديدة، التي كانت القيادة السوفيتية تأمل منها أن تؤدي دورًا مهمًّا في قيادة النضال الثوري المناهض للاستعمار في آسيا (5).
تعود المحاولات الأرمنية لتغيير وضع ناغورنو قره باغ إلى الثلاثينيات؛ إذ قُدِّمت الالتماسات والنداءات المختلفة للمطالبة بنقل هذه المنطقة إلى أرمينيا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكنَّ الردود كانت غير إيجابية من قبل موسكو، ومع مرور الوقت أصبح الاستقلال الذاتي لناغورنو قره باغ مقيَّدًا للغاية، وتدهورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية بالترافق مع سياسة أذربيجان الثقافية التي تميز الأذربيجانيين عن الأرمن في ناغورنو قره باغ، وإضافةً إلى ذلك كانت النسبة المئوية للأرمن في ناغورنو قره باغ تتغير ببطء من 91.2٪ في العام 1939م إلى 80.5٪ في العام 1970م؛ الأمر الذي عدَّه الأرمن نتيجةً للتلاعب المتعمَّد بالسكان (5).
Image: SYR RES
الشكل (2) - خريطة الحدود السياسية لأرمينيا وأذربيجان
في نهاية الفترة السوفيتية شهدت منطقة ناغورنو قره باغ نمو حركة انفصالية سعت إلى إنهاء السيطرة الأذربيجانية عليها، وبدأ القتال على المنطقة في العام 1988م وتصاعد بعد حصول أرمينيا وأذربيجان على استقلالهما عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991م، وبحلول الوقت الذي دخل فيه وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في أيار (مايو) 1994م؛ سيطر الانفصاليون المدعومون من أرمينيا على ناغورنو قره باغ وسبع مقاطعات أذربيجانية محيطة بها (4).
وكانت تركيا قد أغلقت حدودها المشتركة مع أرمينيا في العام 1993م، ممَّا أعاق النمو الاقتصادي الأرمني، وذلك لدعم أذربيجان في صراعها مع أرمينيا للسيطرة على ناغورنو قره باغ والمناطق المحيطة بها (3).
وبعد توتر سياسي متصاعد بين أرمينيا وأذربيجان وصل إلى تبادل رشقات مدفعية عبر حدود البلدين، وقعت حرب ناغورنو قره باغ الثانية في العام 2020م واستمرت ستة أسابيع بين شهرَي أيلول (سبتمبر) وتشرين الثاني (نوفمبر)، واستعادت أذربيجان على إثرها الكثير من الأراضي التي فقدتها قبل ربع قرن، وبموجب شروط اتفاق وقف إطلاق النار، أعادت أرمينيا الأراضي المتبقية التي احتلتها إلى أذربيجان (4,6).
وفي خلال هذا النزاع وقفت روسيا على الحياد، في حين تلقَّى التصعيد العسكري الأذربيجاني دعمًا دبلوماسيًّا كبيرًا من تركيا التي زوَّدت أذربيجان أيضًا بطائرات مسيَّرة في أرض المعركة، ووُضِع اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة روسية ونصَّ على وجود 2000 جندي روسي في منطقة النزاع بصفتهم قوات حفظ سلام ولضمان أمن الممر البري الذي يصل بين أرمينيا وناغورنو قره باغ (6).
Image: SYR RES
الشكل (3) - خريطة توضح موقع منطقتي ناغورنو قره باغ وناخيتشيفان
ما تزال النتائج المحلية والإقليمية لحرب خريف 2020م تتكشَّف، فقد تسبَّبت هذه الحرب بمقتل أكثر من 6000 شخص نتيجة القتال المباشر وأكثر من 150 شخص من الضحايا المدنيين، وتسبَّبت بنزوح عشرات الآلاف من الأشخاص أيضًا، وإضافةً إلى ذلك تدرس الحكومة الأذربيجانية الآن كيفية إعادة توطين مئات الآلاف من الأشخاص الذين نزحوا من منطقة النزاع في التسعينيات، ممَّا سيتطلَّب جهودًا كبيرة لإزالة الألغام والبناء.
ولم تُنتِج حرب 2020م حلًّا للوضع السياسي المتنازع عليه في ناغورنو قره باغ، فأدَّت إلى اضطراب سياسي في أرمينيا وعزَّزت قوَّة الحكومة في أذربيجان، وقد ينتج عن الحرب أيضًا زيادة نفوذ القوى الإقليمية مثل روسيا وتركيا وإيران (6).
فهل تعتقدون أنَّ هذه الحرب ستكون الحرب الأخيرة في هذه المنطقة؟ أم أنَّنا سنشهد صراعات أخرى في المستقبل؟ وهل ترون أنَّ من حق سكان الإقليم أن يقرروا مصيرهم باستقلاله أو تبعيته لأرمينيا؟ أم ترَون وجوب إتباعه لأذربيجان؟
المصادر:
2. Adanir F. Armenian deportations and massacres in 1915. In: Chirot D, Seligman MEP, ed. by. Ethnopolitical Warfare: Causes, Consequences, and Possible Solutions [Internet]. American Psychological Association; 2001 [cited 2 November 2021]. p. 71-81. Available from: هنا
3. The World Factbook: Explore All Countries: Armenia [Internet]. Cia.gov. [cited 20 June 2021]. Available from: هنا
4. The World Factbook: Explore All Countries: Azerbaijan [Internet]. Cia.gov. [cited 20 June 2021]. Available from: هنا
5. Fraser NM, Hipel KW, Jaworsky J, Zuljan R. A Conflict Analysis of the Armenian-Azerbaijani Dispute. Journal of Conflict Resolution [Internet]. 1990 [cited 20 August 2021];34(4):652-677. Available from: هنا
6. Welt C, Bowen AS, Library of Congress Washington DC. Azerbaijan and Armenia: The Nagorno-Karabakh Conflict [Internet]. Washington DC: Congressional Research Service; 2021 p. 26. Available from: هنا