هل الحرب ضرورة لا يمكننا الاستغناء عنها؟
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا السياسية
ولأنَّ حياة الماضي كانت حياة خوفٍ وحربٍ وجوعٍ وقلقٍ من العدو، ولأنَّ أي فردٍ ليس من العائلة أو محيطها شكَّل تهديدًا محتملًا (3)، هل يمكن أن نعد الحرب مبررةً لكونها موجودةٌ منذ القدم؟
ترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنَّ مفهوم الشجاعة ارتبط تقليديًّا بالطاعة لمجموعةٍ من قواعد الشرف التي يضعها المحارب على الرغم من أنَّ المحارب قد يكون مجرمًا يصوِّر قتله للأبرياء بأنه بطولات يتباهى بنشرها عبر اليوتيوب (4)، ولأنَّ الأرقام لا تكذب؛ فإنَّ التساؤل عمَّا إن كانت الحرب أقسى في الماضي أو ذات وتيرةٍ أكبر وأنَّ فترات السلام ليست كما هي اليوم مع دعوات السلام ومنظمات السلام والتظاهرات من أجل السلام على أرض الواقع أو عبر المنصات الإلكترونية، يمكن الإجابة عنه بالقول أنَّ الحرب لم تتوقف على الأقل عبر التاريخ الذي تمكن علماء الآثار من الوصول إليه؛ إذ لا يمكن حسم وجود أو عدم وجود الحرب في الماضي السحيق بسبب ندرة الأدلة المادية على وجودها مثل وجود الحصون، ولكنَّ ذلك لا يخبرنا أنَّ الماضي كان آمنًا، وخصوصًا مع الإجماع بين العديد من علماء الآثار وغيرهم ممَّن تقصوا أسباب الموت في الماضي ووجدوا أنَّ معدلات الموت الناتج عن الحروب لا يستهان بها (3).
إذًا لطالما كانت الحرب موجودة؛ فهل نأمل بغدٍ خالٍ من الحروب؟
تقلصت الصراعات الإمبريالية أو الاستعمارية في التاريخ الحديث، وكذلك الصراعات الدولية على نحوٍ ملحوظ، لكنَّ ما يثير الاستغراب هو ازدياد الصراعات الأهلية التي تشكِّل الحكومات طرفًا فيها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ سواء كانت هذه الصراعات بتدخل قوى خارجية أو كانت مقتصرة على الحدود السياسية للدولة، ويوضح الرسم البياني الآتي الفروقات بعدد وأنواع الصراعات منذ العام 1946م إلى العام 2020م (5).
Image: OWID based on UCDP/PRIO
ونلاحظ أيضًا الارتفاع المباشر للحروب الأهلية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تجاوز عدد ضحاياها ما أنتجته الحروب الدولية التالية للحرب العالمية الثانية؛ إذ بلغ عدد ضحايا الحروب الأهلية منذ ذلك التاريخ 16.5 مليون شخص، في حين وصل عدد الضحايا الناتجين عن الحروب بين الدول إلى 3.3 مليون، وبلغ عدد الحروب الأهلية منذ العام 1945م 122 حربًا، أمَّا الحروب التقليدية فقد كان عددها 25 حربًا وفقًا لما ذُكر في تقريرٍ صادرٍ عن جامعة ستانفورد في العام 2002م (6).
وعلى خلاف التوقعات؛ إنَّ الأسباب الأكثر تأثيرًا في الحروب الأهلية ليست نقص الحريات المدنية أو البيروقراطية أو حتى عدم المساواة الاقتصادية والاستبعاد الحكومي للأقليات بقدر ما مهدت الأسباب الآتية لها من الفقر المدقع (يمكنكم قراءة مقالنا "من أين يأتي الفقر؟ وهل يمكن أن يزول؟" من هنا)، وعدم الاستقرار السياسي الذي أدى في بعض الأحيان إلى زوال دولٍ ونهوض دولٍ أخرى (يمكنكم قراءة مقالنا "ثلاث دول اختفت عن الخريطة، ماذا تعرفون عنها؟" من هنا)، وأسباب جغرافية متعلقة بتضاريس الدول التي تسهِّل اختفاء المتمردين، ويضاف إلى ذلك عدد السكان الكبير والتمويل الخارجي (6).
فما دور الجغرافيا في اندلاع الحروب بين الدول؟
للحرب أسباب عدة، ولكنَّ الجغرافيا ذات أهمية مركزية بالنسبة للحروب؛ فهي ليست فقط جزءًا من وضع الخطط والإستراتيجيات، بل تؤدي دورًا مهمًّا في نتييجة الحرب وتداعياتها على المدى الطويل، ويمكن تتبُّع العلاقة بين الحروب والجغرافيا عبر التاريخ؛ إذ كان لها دورٌ فعَّال في تأمين الميزات أو العوائق للأطراف المتنازعة (7)، وقد أدرك المؤرِّخون العسكريون ومطوِّرو الإستراتيجيات العسكرية دور الجغرافيا في التأثير في نتيجة الصراع، وكان مصير الذين لم يدركوا أهميتها خسارة الحروب التي خاضوها؛ إذ يؤثِّر موقع وحجم الدولة في تصميم واختيار الإستراتيجية العسكرية المتَّبعة (8)، لذلك لا بُدَّ من وجود معرفةٍ جغرافيةٍ واسعةٍ لدى المشاركين في الحرب (9).
وإنَّ تأثير الجغرافيا البشرية لا يقل أهميةً أيضًا عن تأثير الجغرافيا الفيزيائية؛ إذ تشكِّل الاختلافات الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية عوامل مهمة في نشوب الصراعات والحروب خصوصًا في الفترات الأخيرة التي شهدت نشوب العديد من الحروب للاختلافات المذكورة سابقًا، في حين نشبت الحروب سابقًا لغايات توسعية كضمِّ أراضٍ جديدة والحصول على موارد إضافية.
وقد تؤثِّر العوامل الجغرافية في نتيجة الحرب أيضًا؛ إذ قد يعيق المناخ الخطر والتضاريس الوعرة والطرق غير السالكة حملات القادة العسكريين جميعها، وفي الوقت نفسه قد تؤدي بعض العناصر الطبيعية دورًا إيجابيًّا مهمًّا بالنسبة لبعض الجيوش والجبهات والدفاعات (9).
وبعد هذا العرض الموجز لماهية الحرب وذكر أسبابها ومقارنة ماضيها بحاضرها، لا يمكن الحسم بأن الحرب قد تزول من الوجود الإنساني، ولا يمكن التأكيد أنها ستستمر، ومع تقلُّص حالة الحرب عبر الزمن، ومع تطورنا إلى الحد الذي يمكِّننا من قراءة التاريخ وتحديد أسباب الحروب بدقة؛ هل سنكون قادرين على إنهاء هذه الأسباب وإيقاف الحروب يومًا ما؟
المصادر:
2. Dawson D. The Origins of War: Biological and Anthropological Theories. History and Theory [Internet]. 1996 [cited 5 March 2022];35(1):1-28. Available from: هنا
3. LeBlanc S. The Origins of Warfare and Violence. In: Fagan GG, Fibiger L, Hudson M, Trundle M, ed. by. The Cambridge World History of Violence [Internet]. Cambridge: Cambridge University Press; 2020 [cited 25 March 2022]. p. 39-57. Available from: هنا
4. Bernard V. Tactics, techniques, tragedies: A humanitarian perspective on the changing face of war. International Review of the Red Cross [Internet]. 2015 [cited 25 March 2022];97(900):959-968. Available from: هنا
5. Roser M, Hasell J, Herre B, Macdonald B. War and Peace [Internet]. Our World in Data. 2016 [cited 5 March 2022]. Available from: هنا
6. Trei L. News Release: Causes of world's civil wars misunderstood, researchers say [Internet]. News.stanford.edu. 2002 [cited 25 March 2022]. Available from: هنا
7. Jacob F, Danielsson SK. War and Geography: The Spatiality of Organized Mass Violence [Internet]. Brill | Schöningh; 2017 [cited 25 March 2022]. Available from: هنا
8. Danielsson SK, Jacob F. Introduction. In: Jacob F, Danielsson SK, ed. by. War and Geography: The Spatiality of Organized Mass Violence [Internet]. Brill | Schöningh; 2017 [cited 25 March 2022]. p. 9–24. Available from: هنا
9. Haning T. Geography of War: The Significance of Physical and Human Geography Principles. Focus on Geography [Internet]. 2010 [cited 25 March 2022];52(1):32-36. Available from: هنا