قصة مدينتين؛ أين العالم من اللامساواة؟ والعالم إلى أين؟
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا الاقتصادية
"كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان"؛ بهذه العبارة يفتتح تشارلز ديكنز روايته الشهيرة، قصة مدينتين (1,2)، أمَّا عن هذا المقال فيمكننا إسقاط العبارة عليه كالآتي، كان أحسن الأزمان لدى 26 شخصًا حول العالم وكان أسوأ الأزمان لدى 3.8 مليار شخص، وتعبِّر هذه الأرقام عن الحياة في العام 2018م حينما كانت ثروة 26 شخصًا تعادل ما يملكه نصف سكان العالم؛ النصف الأكثر فقرًا بالطبع (3)، وعلى الرغم من أنه لا يمكننا الحسم في أنَّ الغني يعيش أفضل الأحوال والفقير يعيش أسوأها ولا أنَّ المال يحسِّن الحياة ويسعد البشر (4) لكن لا يمكننا نكران حقيقة أنَّ الفقر يحمل بين طياته كثيرًا من الشر (5).
اللامساواة داخل الدولة:
يعيش اليوم أكثر من 70% من سكان العالم في دولٍ تتزايد فيها اللامساواة الاقتصادية، والتي لا تلغي وجود اللامساواة بين الدول، لكنَّ وجود اللامساواة ضمن الدولة الواحدة تجربةٌ يعيشها الفرد كلَّ يوم ويشعر بهذا التفاوت ليس بمقارنة دولته مع دول العالم المتقدِّم ولكن بمقارنة منزله وصحَّته وطعامه مع طعام ومنزل جاره الذي يقطن على بعد أمتارٍ عدَّة منه.
وعبر العقود الثلاثة الأخيرة، ازدادت فجوة اللامساوة بين قيم الدخل على مستوى الدولة الواحدة في الغالبية العظمى من دول العالم، وعلى الرغم من أنَّ بعض الدول كالبرازيل قد شهدت انخفاضًا ملحوظًا في حجم الفجوة بين الفقراء والأغنياء؛ لكنَّ هذه المستويات بقيت مرتفعة (3).
أين العالم من اللامساواة؟ والعالم إلى أين؟
وجدت منظَّمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD) أنَّ اللامساواة التي رسَّخت وجودها الأزمات الاقتصادية مشكلةٌ ملحَّة؛ ففي كلٍّ من تشيلي والمكسيك يرتفع مستوى دخل الأغنياء عن الفقراء بـ 25 مرة، وأكَّدت المنظّمة وجود التخوُّف من غياب الطبقة الوسطى في العديد من المجتمعات (6).
وتؤثِّر هذه المشكلة في الأطفال ومستقبلهم على نحوٍ كبير؛ إذ قد يلتحق أبناء الأغنياء بصفوف الباليه وكرة القدم بعد المدرسة، الشيء الذي قد يعجز عن تأمينه أولياء الأمور محدودي الدخل لأطفالهم، وكأنَّ الفجوة التي تتَّسع بين العائلات الفقيرة والغنية توسِّع معها دائرة أنشطة أبناء الأثرياء وحذر ذويهم من إهدار دقيقةٍ من وقتهم دون فائدةٍ ومتعة، وتضيِّق معها مجال تسلية أبناء الفقراء الذين يقضون أوقات فراغهم في منازلهم أو مع أقرباءهم في أحياء غير صالحة لتربية الأطفال، وتشكِّل خطرًا على حياتهم ومصيرهم؛ وذلك تخوُّفٌ يعبِّر عنه أهالي الأطفال أنفسهم (7).
يتأثّر الأشخاص الأكثر فقرًا أولًا بعدم المساواة، ولكنَّ اللامساواة تهدِّد اقتصاد الدولة أيضًا ممَّا يؤثِّر سلبًا في جميع الطبقات (8).
وتنتشر عدم المساواة في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية والدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، في حين تنخفض في أوروبا الغربية؛ إذ يتقاضى 10% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية أجورًا توازي تسعة أضعاف ما يتقاضاه بقية السكان، ويمتلك 1% من سكان الهند أكثر من نصف الثروة العامة (60%) تبعًا لإحصائيات العام 2016م (9).
قد تؤدي اللامساواة الاقتصادية إلى زيادة حالات الإصابة بالشيزوفرينيا!
قدَّمت بعض الدراسات ارتباط عدم المساواة بالصحة الجسدية؛ إذ تؤثر في وفيَّات الأطفال والبدانة ومتوسط العمر المتوقع (يمكنكم قراءة عملنا "هل أعمار أجدادنا أطول من أعمارنا؟" من هنا)، وهناك أدلَّة أيضًا على علاقتها بالصحة النفسية؛ إذ يوجد علاقة إيجابية بين معدل اضطراب الشيزوفرينيا (الفصام) وقيم عامل (Gini)؛ وهو مؤشِّرٌ لقياس توزُّع الثروة والدخل بين سكان منطقة ما (9)، ويعني ارتفاعه ارتفاع اللامساواة (10)، وتوصَّلت الدراسة إلى أنَّ اللامساواة تؤثر سلبًا في التماسك الاجتماعي ورأس المال وترفع التوتر طويل الأمد ممَّا يرفع عوامل الخطورة للإصابة بالشيزوفرينيا (9).
هل يمكن التخلص من اللامساواة أم أنَّها أمرٌ محتوم؟
وضَّح بحث من جامعة كاليفورنيا بيركلي أنَّ تركيز عائدات النمو الاقتصادي في الطبقة الأغنى يمثِّل خرقًا كبيرًا لتشارك الرفاهية التي اعتاد عليها المجتمع، وتعود جذور هذه الفجوة إلى أسباب عدَّة منها؛ ضعف السياسة العامة في الاستجابة لديناميكية سوق العمل المتغيرة، والسياسات التي سهَّلت إلغاء الضوابط المالية، وبالإمكان تقليص اللامساواة ومعالجة الفقر دون التأثير في النمو الاقتصادي، وذلك عن طريق حلول اقتصادية وسياسية عدة؛ مثل زيادة الحد الأدنى من الأجور والاستثمار في التعليم ومنع التجزئة بين مواطني الدولة (11).
وترى الأمم المتحدة أنَّ مجاراة اللامساواة العالمية وتخفيفها يبدأ بالقضاء على الفقر والجوع، والاستثمار في الصحة والتعليم، والحماية الاجتماعية، وتأمين فرص عمل لائقة للشباب والمهاجرين واللاجئين وغير ذلك من الفئات الأكثر عرضة وتأثُّرًا، ومن المهم إحداث نمو اقتصادي واجتماعي شامل على مستوى الدولة وكذلك منع القوانين والسياسات والممارسات القائمة على التمييز (12).
2. Dickens C. Book the First: Recalled to Life—Chapter 1: The Period. A Tale of Two Cities [Internet]. Lit2Go Edition; 1859 [cited 13 August 2022]. Available from: هنا
3. Inequality – Bridging the Divide | United Nations [Internet]. United Nations. [cited 3 December 2021]. Available from: هنا
4. Oishi S, Kesebir S, Diener E. Income Inequality and Happiness. Psychological Science [Internet]. 2011 [cited 3 December 2021];22(9):1095-1100 (6 pages). Available from: هنا
5. Reeves RV, Kneebone E, Rodrigue E. Five evils: Multidimensional poverty and race in America [Internet]. Brookings. 2016 [cited 3 December 2021]. Available from: هنا
6. Inequality - OECD [Internet]. Oecd.org. [cited 12 August 2022]. Available from: هنا
7. Miller CC. Rich children and poor ones are raised very differently (quotes Sean Reardon) [Internet]. Stanford Graduate School of Education. 2015 [cited 3 December 2021]. Available from: هنا
8. Keeley B. Income Inequality: The Gap between Rich and Poor [Internet]. OECD; 2015 [cited 3 December 2021] 120 p. Available from: هنا
9. Patel V, Burns JK, Dhingra M, Tarver L, Kohrt BA, Lund C. Income inequality and depression: a systematic review and meta-analysis of the association and a scoping review of mechanisms. World Psychiatry [Internet]. 2018;17(1):76-89. Available from: هنا
10. OECD Glossary of Statistical Terms - Gini index Definition [Internet]. Stats.oecd.org. 2002 [cited 12 August 2022]. Available from: هنا
11. Responding to Rising Inequality: Policy Brief | Othering and Belonging Institute [Internet]. Belonging.berkeley.edu; 2014 [cited 3 December 2021]. Available from: هنا
12. Reduced Inequalities: Why It Matters - United Nations Sustainable Development Goals [Internet]. United Nations; [cited 12 August 2022] 2 p. Available from: هنا