الاعتبارات الأخلاقية والقانونية للتقنيات الجغرافية والاستشعار عن بعد
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا الرقمية ونظم المعلومات الجغرافية
أدَّى الوصول السهل والمتاح لصور الأقمار الصناعية إلى إثارة الجدل حول الاستخدامات الأخلاقية لتقنيات الاستشعار عن بعد؛ إذ دعا البعض إلى ضرورة وجود تعليمات أخلاقية لمواجهة الاستخدامات غير المرغوب بها للتكنولوجيا (1)؛ إذ تعد الأخلاقيات الجغرافية أمرًا مهمًّا لمستقبل البيئة والحياة على كوكب الأرض، نظرًا لكون الجغرافيين وكلاء الأرض وسكانه، ويؤثرون بقراراتهم في رفاهية الحياة على كوكب الأرض وفقًا للتطبيق المفيد للمهارات الجغرافية (2).
لقد غيرت التقنيات الجيومكانية الطريقة التي يتعامل بها العلم مع الظواهر الاجتماعية والبيئات المادية، معربةً عن مزايا كبيرة لاستخدام هذه التقنيات والبيانات الصادرة عنها، وعلى الرغم من ذلك، يمثِّل استخدامها أيضًا معضلات أخلاقية كبيرة؛ مثل قضايا الخصوصية والأمان إضافةً إلى التوصيف المعيب أو المتمايز الناتج عن الارتباط بمواقع أو ظروف معينة، لذلك فإنَّ استخدام التقنيات الجغرافية المكانية والبيانات الناتجة هنا يحتاج إلى تقييم نقدي عن طريق عدسة أخلاقية قبل تنفيذ البرامج أو التحليلات أو الشراكات (3).
يشهد مجال الاستشعار عن بعد في الآونة الأخيرة ثورةً حقيقية في إدارة المعلومات الجغرافية والتحكم في البيانات والاتصال؛ إذ أنَّ إعادة الهيكلة الاقتصادية التي يشهدها هذا المجال شجَّع العديد من الحكومات والهئيات لتدخل سوقه، وأدَّى هذا التنوع في الاستخدام، إلى جانب تطوير البنية التحتية العالمية للمعلومات، إلى خلق عالمٍ مختلفٍ تمامًا في توزيع وتحليل البيانات المكانية والطيفية عالية الدقة (4).
على الرغم من أنَّ تقنيات الاستشعار عن بعد أصبحت منتشرة على نحوٍ متزايد في كل مكان وفي الأبحاث الأثرية مثلًا؛ لكنَّ استخدامها السليم والأخلاقي نادرًا ما يُفحَص نقديًّا، ولا سيِّما بين المجتمعات المستهدفة (5)، فمنذ إطلاق محرك (Google Earth) في العام 2001م ركَّزت عديدٌ من الدراسات على كل من التأثيرات الإيجابية والسلبية للوصول الواسع النطاق إلى الصور الفضائية عالية الدقة، ولكن افتقرت هذه الدراسات إلى ضرورة التطرق المباشر لموضوع الممارسات الأخلاقية المواكبة لهذه العملية، وذلك ربَّما لعدِّها قضيةً فرعيةً صغيرةً نسبيًّا (6).
وعليه فقد حُدِّدت أربعة جوانب رئيسية لاحتماليات التجاوزات الأخلاقية التي قد تحدث عبر تقنيات الاستشعار عن بعد، وهي:
الحساسية الثقافية: التي قد تنشأ نتيجة عرض صور الأقمار الصناعية لبعض المواقع الطبيعية أو الأثرية ذات الطابع الروحاني أو الثقافي أو الاجتماعي الخاص، والذي قد لا يكون من المحبَّذ مشاركة تفاصيلها الحياتية خارج حدود أفراد المجتمع.
السيادة والعلاقات: هنا تكمن التجاوزات الأخلاقية في عملية أخذ الصور الفضائية دون استشارة أو رغبة الحكومات المحلية لبعض الأقاليم المحلية، وقد يُعتبر مثل هذا التجاوز تهديدًا للسيادة والاستقرار.
إمكانية الوصول إلى البيانات وملكيتها: فالمعرفة حق لجميع الناس مهما كان نوعها، ووصولها مشروعٌ للجميع، ولا بُدَّ أن تكون معلومات الاستشعار عن بعد مُنتجة وموزَّعة من مؤسسات نخبوية وعلماء ووكالات حكومية أو خاصة ذات فكر وتوجه ديمقراطي.
التعارض مع المعرفة التقليدية: هنا لا بُدَّ أن نتطرَّق قليلًا إلى مصطلح الاستعمار العلمي (scientific colonialism) الذي قد يكون للاستشعار عن بعد دورٌ فيه وفي تفاقم التوترات المعرفية بين المجتمعات. في بعض الأحيان تكون المعرفة المُنتجة من الأقمار الصناعية لموقع جغرافي ما متناقضة مع المعارف التقليدية، وهذا ما يمكن أن يكون أحيانًا صراعًا متجسِّدًا في مقولة "العلم مقابل الدين" عندما يقوم المجتمع المحلي بمقارنة المعرفة الموضوعية للاستشعار عن بعد بالمعرفة الذاتية التقليدية المتوارثة (5).
لذلك جادل الباحث كوهين مع مجموعة من الباحثين على ضرورة صياغة مدونة سلوك لجمع وتخزين وتوزيع بيانات الاسشعار عن بعد، وهذا بالفعل ما أنجزه الباحث باركاك؛ إذ قدَّم بيان عمل محتمل مستمد أولًا من كود الجمعية الأمريكية للمسح التصويري والاستشعار عن بعد (ASPRS) عام 1975م، وثانيًا من مدونة الأخلاق الأوسع لجمعية علماء الآثار الأمريكيين (SAA) للعام 1996م. وعلى الرغم من ذلك، يُوصف ما قُدِّم في هذه المبادئ التوجيهية بالعمومية والنظرية؛ فالعلوم الرقمية التي تعمل بتقنيات الاستشعار عن بعد تتقدَّم على نحوٍ متسارع، وكذلك كمية البيانات الرقمية المُنتَجة والوسائل المتاحة لنشرها والتفاعل معها ومعالجتها، لذلك يوصى دائمًا بضرورة صياغة معايير أخلاقية متوافقة مع كل مشروع أو منطقة دراسية (6).
في علم الآثار مثلًا، كان الاهتمام الأخلاقي الشائع للاستشعار عن بعد هو إمكانية البيانات الجغرافية المكانية المتاحة للجمهور في المساهمة بتضخيم قابلية تعرُّض المواقع الأثرية للتأثر بأنشطة التنقيب غير المشروعة التي تغذي أسواق الآثار الدولية، ومنه فقد نصَّ قانون الأخلاق الأثرية لجمعية علماء الآثار الأمريكيين (SAA) عام 1996م على أنَّ الاهتمام بالحفاظ على المواقع الأثرية وحمايتها في الموقع يجب أن يؤخذ في الحسبان عند نشر وتوزيع المعلومات حول طبيعتها وموقعها (6).
وهنا لابدَّ لنا من طرح سؤال؛ ما الذي يجب مراعاته أخلاقيًّا وقانونيًّا عند استخدام التقنيات الجغرافية والبيانات الناتجة عن تقنيات الاستشعار عن بعد؟
لقد حددت منظمة اليونيسف (UNICEF) بالتعاون مع مجموعة من الخبراء وأصحاب المصالح والمجتمعات المحلية مجموعة من الإرشادات والتعليمات للاستفادة المُثلى من التقنيات الجغرافية وحماية المجتمعات من آثارها السلبية:
أولًا: التركيز في الفوائد وزيادتها لأقصى حد:
الوضوح في كيفية تجميع ومعالجة البيانات والخرائط وفقًا لاحتياجات العملية أو السياسة المعمول بها.
تقييم الفوائد والآثار المترتبة على الموارد البديلة.
التوثيق بالأدلة لتحديد الفوائد الصريحة والملائمة.
التخطيط الإستراتيجي لعملية جمع البيانات المكانية (3).
ثانيًا: ضمان الخصوصية والأمان:
الحصول على الموافقة المطلوبة؛ لا سيِّما مع استخدام بيانات شخصية محدَّدة.
احترام طبيعة السكان وخصوصيتهم وتوقعات موفِّري البيانات.
إخفاء التفاصيل المرئية عبر اعتماد أضعف دقة ممكنة مع الحفاظ على جدوى البيانات المجمَّعة (3).
ثالثًا: فهم المخاطر والقيود المحتملة للبيانات المستخرجة: وخاصة المتعلقة بمجموعة الأفراد الذين ضُمَّنوا أو استُبعِدوا من الدراسة، إضافةً إلى أخذ الحذر حيال التمييز الذي قد يُقترف بحق الفئات المحرومة ضمن منطقة جغرافية معينة والتي قد ينتج عنها اتجاهات جغرافية ونماذج تنبوئية انحيازية ضد بعض الأشخاص، فيما يتعلق بإمكانية وصولهم إلى الخدمات والفرص (3).
رابعاً: تقييم وإدارة المخاطر: وذلك عبر اتباع إطار عمل واضح لتقييم المخاطر في ضوء الخصوصية والأمان، إضافةً إلى تجهيز خطة الطوارئ في الحالات الحرجة كتلف البيانات أو حدوث خرق للخصوصية (3).
خامساً: إشراك المجتمعات في تقييم المخاطر وتبادل المخرجات: وخاصةً عند استخدام الطائرات من دون طيار لالتقاط صور معينة، والتركيز على الشفافية في الاستخدام وإتاحة الفرصة لعقد اجتماعات مع المجتمع المحلي قبل التنفيذ (3).
سادساً: الاعتبارات القانونية: احترام البيئة القانونية المتَّبعة في المجتمع المحلي أو الحيِّز الجغرافي المستهدف من الاستشعار عن بعد، إضافةً إلى الالتزام بالتشريعات واللوائح الدولية (3).
ختامًا، لا يمكننا إغفال الدور الفعال الذي تؤديه تقنيات الاستشعار عن بعد في تطور الدراسات الجغرافية والأثرية والعمرانية وغيرها، ولكن لا بُدَّ من الانتباه إلى آثارها السلبية ومراعاة الجوانب الأخلاقية عند استخدامها.
المصادر: