هل تراقب الثقوب السوداء الكون؟
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
من أشهر وأغرب نتائج ميكانيك الكم هي أن الأجسام الصغيرة، كالذرات والإلكترونات، توجد على شكل موجة من الاحتمالات قبل أن نقوم بقياسها، وتسمى هذه الحالة بالتراكب الكمومي (Quantum Superposition).
في تجربة شقي يونغ، نطلق إلكترونًا منفردًا على لوح يحوي شقين، إذا لم نحاول معرفة المسار الذي سلكه الإلكترون، فإننا سنجد نمط تداخل موجي على شاشة العرض، أي إن الإلكترون مرَّ من الثقبين معًا مثل موجة من المياه، بينما إذا قمنا برصد الشق الذي مر منه، فإن نقطة واحدة توافق مسارًا واضحًا تظهر على الشاشة، ونقول في هذه الحالة إن عملية المراقبة (أو القياس) أدت إلى انهيار التراكب الكمومي (1).
- يمكننا أن نتخيل إجراء تجربة مماثلة على مقياس كوني: تجهِّز المراقبة الأولى أليس (Alice) جسيمة مشحونة كهربائيًّا في حالة كمومية معينة، مثل إلكترون محور لفِّه الذاتي يشير نحو الأعلى، وتفصل الإلكترون إلى حزمتين موجيتين -كما يحصل عندما يمرُّ الإلكترون في الشقين- ثمَّ تجمعهما ثانيةً بعد مضي فترة زمنية؛ هل يعود الإلكترون إلى حالته الأولى نفسها؟ تبين الحسابات أنها إذا انتظرت زمنًا طويلًا بما فيه الكفاية، فإن الإشعاع الكهرطيسي الصادر لن يساهم في انهيار الحالة الكمومية، ويعود الإلكترون إلى حالته الأصلية (2).
- تتغير نتيجة هذه التجربة جذريًّا إذا تخيلنا وجود مراقب آخر بوب (Bob) يختبئ خلف أفق الحدث لثقب أسود، وأفق الحدث هو المنطقة من الزمكان حول كتلة هائلة حيث تكون شدة الجاذبية، أو انحناء الزمكان، كافيًا لمنع الضوء من الهروب والوصول إلينا، وبالتالي تظهر على شكل فجوة سوداء في الفضاء. وبما أن الضوء يسافر بالسرعة العظمى في الكون، فإنه لا شيء يمكنه الهروب من وراء أفق الحدث، وما يقع داخل الثقب الأسود لا يمكنه أن يتبادل المعلومات مع العالم الخارجي (3).
ورغم ذلك، يبدو بأن ميكانيك الكم تسمح لبوب بانتهاك قوانين السببية التي تنصُّ عليها نظرية النسبية العامة: بما أن مدى تأثير الحقول الكهرطيسية لانهائي -هناك قوة متبادلة ضئيلة جدًّا بين الشحنات التي في جسدك وتلك التي في السُّحب الكونية مثلًا- فإنه يمكن لبوب أن يطلق جسيمة مشحونة وفق مسار معين ويقيس انحرافها، إذ تؤثِّر عليها جسيمة أليس، وبالتالي معرفة "من أي شق مرَّت الجسيمة" والتسبب في انهيار التراكب الكمومي كما يحدث عندما نحاول رصد مسار الإلكترون في تجربة الشقين. وباختصار: تمكن مراقب داخل الثقب الأسود من التأثير على ما يقع خارجه، مما يعارض قوانين السببية (4).
لتفادي هذه المفارقة، اقترح فريق من الباحثين في ورقة منشورة في دورية International Journal Of Modern Physics D أن أفق الحدث هو الذي يقيس الحالة الكمومية في تجربة أليس وليس بوب. ولنفهم كيف يحدث ذلك، علينا أن نتذكر أن القوة الكهرطيسية تحملها جسيمات كمومية عديمة الكتلة تدعى فوتونات، وتصدرها عندما تشعُّ الشحنات أو تتفكك بعض الجسيمات دون الذرية، ويمكن لفوتونات ذات طاقة منخفضة جدًّا -تدعى فوتونات ناعمة- أن تشكل غلافًا يحيط بأفق حدث الثقوب السوداء، وكان فريق بحثي -بينهم ستيفن هوكنغ- اقترح سابقًا أن وجود فوتونات وجرافيتونات -الجسيمات الحاملة لقوة الجاذبية- ناعمة على أفق الحدث يخزِّن معلومات الأجسام التي تسقط في الثقوب السوداء مما يحفظها من الضياع (2,5,6).
- عندما تجمع أليس الحزمتين الموجيتين، فإنها تصدر فوتونات ناعمة تترك انطباعًا دائمًا على أفق حدث الثقب الأسود، فيكتسب الثقب معلومات حول التراكب الكمومي للجسيمة المشحونة، مما يؤدي إلى انهياره على نحوٍ لا يمكن أن تتجنبه أليس من حيث المبدأ، فإذا افترضنا أن الثقب الأسود نفسه وليس بوب هو من يدمِّر التراكب، فإن سببية الزمكان تبقى محققة. وبما أن الحقل الكهرطيسي يمتد إلى مسافة لانهائية، فإن الثقب الأسود سوف "يراقب" أي جسيمة كمومية في الكون. كل ما سبق ينطبق تمامًا على الجاذبية، إذ إن الجسيمات ذات الكتلة تصدر إشعاعًا ثقاليًّا على شكل جرافيتونات ناعمة إلى مسافات لانهائية، فتترك انطباعًا على أفق الحدث (2).
وهذا التأثير ليس حكرًا على أفق حدث الثقوب السوداء تحديدًا، فقد بيَّن الباحثون في ورقة بحثية لاحقة أنَّ الآفاق (Horizons) في الزمكان -وهي الحدود التي تفصل مناطق الزمكان التي يستحيل التواصل بينها، ويشكل أفق الحدث حالة خاصة منها- تدمر التراكبات الكمومية عن طريق اكتساب معلومات من الفوتونات/الجرافيتونات الناعمة، إلا أنه غير واضح كيف يمكن الاستفادة تجريبيًّا من هذه الظاهرة، فوفقًا للحسابات، يتطلب الأمر زمنًا أطول من عمر الكون ليحدث الانهيار، ولكن على المستوى النظري، تربط هذه النتائج هندسة الزمكان مع أحد أهم ألغاز ميكانيك الكم، وقد تشكل خطوة مهمة نحو نظرية كمومية للجاذبية (7).
المصادر: