إعادة صياغة نظام التعليم في رومانيا: ما بعد تشاوشيسكو
التعليم واللغات >>>> التربية والتعليم
نظرة سريعة على حكم تشاوشيسكو وأدوات السيطرة في التعليم:
تحرَّينا في المقال السابق استغلال النظام الشيوعي وبعده نيكولاس تشاوشيسكو للتعليم في رومانيا بجعله أداةً لتحقيق مآرب سياسية، فقد ركَّزوا على تكريس النضال الطبقي والتطرُّق إلى التاريخ القديم لإبراز الصراع بين أجداد الرومانيين والإمبرياليين المستغِلين؛ الذين كانوا الرومان (Romans) في هذا السياق. ولتسليط الضوء أكثر على تاريخ رومانيا القديم، أُنتِجت أفلام مثل داشيا (Dacia) و العمود (Columna) وبوريبيستا (Burebista)، وبمزجٍ بين بعض الحقائق التاريخية والقصص الخيالية المُختلقة؛ رسَّخت هذه الأفلام الفكرةَ بأنَّ الرومانيين كانوا دائمًا موجودين في تلك الأراضي؛ لجعل الجمهور يتماهى مع صورة "البطل الداتشي الوطني"، وهي صفة زُعم أنَّ الرومانيين ورِثوها؛ وكان الهدف تعزيز الشعور والنزعة القومية والوطنية لدى الشعب والتي وصلت إلى ذروتها في السنوات الأخيرة من الشيوعية (gidni) (295)، وبالتالي رُسِّخت صورة نيكولاي تشاوشيسكو بصفته واحدًا من أعظم القادة الذين حكموا رومانيا، وبأنَّه الضامن لوحدة الأمة عن طريق استحضار اللحظات الإيجابية في التاريخ الروماني، فبرزت مظاهر عبادة الشخصية "التأليه"(1).
وبالعودة إلى التعليم، لم تكن الوظائف الأكاديمية تُمنَح وفقًا لمعايير الكفاءة وحدها قبل سقوط نظام تشاوشيسكو، بل كانت تخضع للمصالح السياسية والولاءات الشخصية. فكانت تُعرقَل التعيينات لمناصب مثل الأساتذة المساعدين على نحو مُمَنهج؛ إمَّا بتدخُّلٍ مباشر من وزارة التعليم والشرطة السياسية أو عن طريق شكاوى واتهامات تُستخدَم سلاحًٍا للإقصاء.
إلى جانب ذلك، أدَّى التجنيد العسكري الإجباري بعد 1951 إلى فقدان عديدٍ من الأكاديميين الشباب لوظائفهم، ليجدوا عند عودتهم أنَّ مناصبهم قد أُغلقت أو شُغلت بغيرهم. أما داخل الجامعات، فكانت هناك بيئة مغلقة أشبه بنظام طبقي؛ إذ فَضَّل بعض العمداء ورؤساء الأقسام تهميش توظيف كوادر جدد للحفاظ على امتيازاتهم. فبدلًا من توزيع الموارد بعدالة، حُصِرت بين قلَّة من الأكاديميين الذين زادوا من ساعات تدريسهم، واستحوذوا على رواتب ومكافآت المناصب الشاغرة؛ ممَّا أدى إلى حدوث ركود في التوظيف وتقليص فرص الأكاديميين الجدد. وقد جعل هذا المناخ الجامد والمُتحَكم به التغييرَ بعد سقوط تشاوشيسكو ضرورةً حتمية، فقد بات إصلاح نظام التوظيف الأكاديمي جزءًا من إعادة بناء التعليم في رومانيا (2).
سقوط حكم تشاوشيسكو:
على الرغم من الفوضى التي تسبَّب بها على مستوى البلاد، لم يضيع الجهد الذي بذله تشاوشيسكو ومواليه في تجييش الشعب لمصلحته سُدىً؛ إذ إنَّ أنصاره بالغوا في تمجيده حتى أنَّهم أطلقوا عليه ألقابًا كمُنقذ الأمة، وبطل السلام، وأعظم مفكر ثوري على مر العصور. وقبل الإطاحة به وإعدامه في ديسمبر عام 1989، أنفق تشاوشيسكو حوالي 300 مليون دولار لبناء قصر الشعب أو ما يُعرف ببيت الجمهورية، ليكون أشبه برمز لسطوته. وقد بُني القصر ليكون أكبر مبنى في العالم، فهو يضم 6,000 غرفة، ولكنَّه بقيَ فارغًا بعد سقوطه، وشاهدًا على رَفْض رومانيا لإرثه. ملأ تشاوشيسكو المناهج بقصص دعائية عن "العصر الذهبي" في تاريخ رومانيا، الذي قيل إنَّه تُوِّجَ بانتصار الحزب الشيوعي تحت قيادته لتنتشر تلك الروايات المُضلِّلة في نظام التعليم كالنار في الهشيم (3).
لكن وكما يُقال: "دوام الحال من المُحال"، فقد شهدت رومانيا تحوُّلًا جذريًّا في تاريخها مع اندلاع ثورة مناهضة للشيوعية أطاحت بزعيمها تشاوشيسكو، وأُعلِنت بعدها البلاد دولة حرة في ديسمبر 1989.
وعلى الرغم من ذلك لم تتحقَّق الأحلام المثالية فورًا؛ فقد تولَّى السلطةَ بعد سقوط تشاوشيسكو أعضاءٌ من "جبهة الإنقاذ الوطني"، وهم مسؤولون سابقون في الشرطة السرية الذين لديهم أجندتهم الخاصة، وقد احتاجت البلاد إلى إصلاحات عديدة لإحداث تغيير حقيقي، وتضمَّنت استبدال المسؤولين ووَضْع سياسات جديدة لمواجهة السياسات الشيوعية السابقة (3).
ومع تغيُّر النظامين الحكومي والاقتصادي في البلاد، كان على المعلِّمين تعديل مناهجهم وأساليبهم من أجل تزويد الخريجين بمهارات عامة وتقنية تساعدهم في المشاركة في السياسة المحلية والمنافسة في اقتصاد السوق. وقد واجهت هذه التغييرات بعض المقاومة كما هو الحال في القطاعات بمعظمها؛ إذ كان الأشخاص الذين تلقُّوا تعليمهم في ظلِّ النظام القديم متردِّدين بشأن مَنْح المدارس مزيدًا من الاستقلالية، وحذرين من إعادة هيكلة التعليم العالي. ومع ذلك، استمرَّ العمل على إعادة تنظيم الجامعات والمدارس التقنية بهدف تطوير طلاب يتمتَّعون بالتفكير النقدي والقدرة على المشاركة في الحكومة الديمقراطية (3).
البدء برحلة التغيير الحقيقي في نظام التعليم:
عُيِّن أندري مارغا (Andrei Marga) عام 1997 وزيرًا جديدًا للتعليم، وأطلق سلسلةً من الإصلاحات شملت تحديث المناهج الدراسية، وتحديث الخطط الدراسية، وإصدار كتب مدرسية جديدة، وهي تغييرات لم تشهدها البلاد منذ خمسين عامًا؛ وذلك بهدف جعل النظام التعليمي متوافقًا مع المعايير الأوروبية. وهدفت هذه الإصلاحات إلى تحسين جودة التعليم عن طريق إزالة المحتوى الأيديولوجي وتبسيط المناهج وتشجيع الإبداع لدى المعلمين بإنشاء مراكز تدريبية لتطوير مهارات المعلمين والإداريين، وزيادة رواتب المعلمين بنسبةٍ وصلت إلى 50% في بعض الحالات. ودعا مارغا أيضًا إلى تغيير جذري في عقلية المواطنين تجاه النظام التعليمي مؤكِّدًا على ضرورة إصلاح شامل بعيدًا عن التغييرات السطحية السابقة (3).
كما عُدِّلَ نظام الفصول الدراسية ليصبح فصلين دراسيين بدلًا من ثلاثة، وزُوِّدت المدارس بتقنيات متطورة مثل شبكات الكمبيوتر المتصلة بالإنترنت؛ ممَّا أتاح للطلاب فرصة مواكبة التطورات العالمية واستخدام برامج تعليمية حديثة (3).
وعند الحديث عن التعليم، لا بُد من التطرُّق إلى وَضْع التعليم العالي الذي شهد تطوُّرًا ملحوظًا مع تطبيق سياسات جديدة تتعلَّق بعملية القبول. ففي عام 1998، أصبحت امتحانات القبول المعيار الوحيد للالتحاق بالجامعات، بدلاً من الاختبارات المتعدِّدة والمتطلَّبات الأكاديمية الصارمة. وقد ساهم هذا التغيير في زيادة أعداد الطلاب المقبولين، فعلى سبيل المثال؛ ارتفع عدد الطلاب المُسجَّلين في التعليم العالي من 250 ألفًا عام 1997 إلى 403 آلاف عام 2000 (3) (p.18).
وبدأ عام 1998 مشروعٌ لإعادة تصحيح وطباعة الكتب المدرسية بمشاركة مؤرخين بارزين، واكتمل هذا المشروع عام 2000. وأُتيحت للمعلِّمين حرية اختيار الكتب المناسبة لصفوفهم بسبب توسُّع المناهج الدراسية على نحو كبير لتشملَ مواد جديدة وأساليب تدريس أكثر تنوعًا لأوَّل مرة؛ فأصبح لدى المعلِّمين حرية أكبر في اختيار الأنشطة الإضافية وتصميم خطط التعليم بما يتناسب مع احتياجات الطلاب. أما في الماضي، فقد كانت المناهج صارمة، والمعلمون ملزمون بتعليم محتوى محدد بطريقة موحدة، أما الآن فيمكن للمدارس تخصيص ما يصل إلى 30% من المناهج لتلبية الاحتياجات الفردية للطلاب؛ ممَّا يعزِّز الانتقال من التعليم التقليدي القائم على التلقين إلى نهج يركِّز على الطالب، ويشجِّع على التفكير النقدي بدلًا من الحفظ.
ولكن لم تكن العملية بتلك البساطة، بل كان تغيير المحتوى التاريخي صعبًا ومعقَّدًا بسبب استمرار تأثير بعض المسؤولين الشيوعيين السابقين الذين عارضوا التعديلات بدعوى أنَّها "تضر بالهوية الوطنية".
وعلى الرغم من ذلك، بدأ المؤرخون تدريجيًّا بتقديم روايات أكثر موضوعية ومتنوعة للتاريخ.
وصحيحٌ أنَّ عملية إصلاح التعليم لم تكن سريعة أو سهلة بسبب الخلافات بين الخبراء حول الحقائق التي يجب تضمينها، ولكنَّ النظام التعليمي تحسَّن مع الوقت (3).
وإحدى المبادرات البارزة كانت إنشاء "أكاديمية مؤسسة التعليم المدني" التي قدَّمت للطلاب والمعلِّمين فرصةً لفهم التاريخ الحقيقي لرومانيا في أثناء الحقبة الشيوعية. وكانت هذه الدروس تُدرَّس على أيدي مجموعة متنوعة من المتخصصين، بمن فيهم أساتذة ومؤرخون ومعارضون سابقون ودبلوماسيون وفنانون لتعزيز التعليم المدني وتصحيح الروايات التاريخية المشوَّهة؛ إيمانًا منهم بأنَّ إعداد أجيال قادرة على إحداث تغيير حقيقي يبدأ من التصالح مع الماضي الشيوعي لرومانيا ويكمن ذلك بتحليل تاريخ الشيوعية وتأثيراته في التعليم (3).
المصادر:
2. Vasile C. TOWARDS A NEW LAW ON EDUCATION: SOME REFLECTIONS REGARDING THE COMMUNIST EDUCATIONAL POLICIES UNDER THE CEAUŞESCU REGIME. Revista Istorică. 2014;25(5–6):493–502. Available from: هنا
3. Phillips J. The educational system in Romania: An overview of how communism has influenced current aspects and programs [thesis]. The Educational System in Romania: An Overview of How Communism Has Influenced Current Aspects and Programs. [Lynchburg, Va]: Liberty University; 2010. Available from: هنا