التعافي الجيوسياسي بعد الحرب
الجغرافيا البشرية والعلوم الإقليمية >>>> الجغرافيا السياسية
وبالتأكيد فإنَّ كلَّ حروب التاريخ مصيرها السلام، وولكن تبقى تكاليفها متفاوتة دائمًا حسب مدَّتها وشدَّتها (1)، وتتَّسم الحروب عمومًا بمزيجٍ معقَّدٍ من العوامل الخطرة التي تهدِّد الحياة السلمية للمجتمعات مثل النزاع العرقي، والصراع الكامن، والاضطرابات السياسية، والتفاوتات في توزيع الموارد، وتدهور المستوى المعيشي، وعدم الاستقرار الإقليمي، وفي هذا السياق تخضع بيئة ما بعد الحرب لديناميكيات محلية وإقليمية ودولية متشابكة تؤثر بلا شك في عملية الانتقال من الحرب إلى السلام (2).
يعود مصطلح الجيوسياسية إلى أواخر القرن التاسع عشر، ويعكس معنى التنافسية والصراع بين القوى الطامحة للسيطرة على الأراضي والموارد والمواقع الجغرافية المهمًّة، مثل الموانئ والمرافئ والقنوات والأنهار وغيرها من مصادر الثروة والنفوذ (3)، وتُعد الصراعات الإقليمية والإرهاب أساس تشكُّل المخاطر الجيوسياسية، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية التي تبرز بوصفها أكثر المناطق تعرُّضًا للنزاعات؛ إذ تُعد أفغانستان والعراق وروسيا وأوكرانيا مراكز المخاطر الجيوسياسية الرئيسية في العالم، مع احتمالية توسع تأثيرات انتشار هذه المخاطر إلى الدول المحيطة بها، وتُعد سياسات التدخل العسكري ودرجة الاعتماد التجاري وعبء الديون الخارجية من أهم عوامل استقطاب المخاطر الجيوسياسية (4).
وتظهر عملية التعافي جهدًا مشتركًا بين المدنيين والحكومات والمنظمات الإنسانية بهدف الانتقال من مرحلة الحرب إلى السلام، وذلك يتجسَّد بدايةً بتلبية الخدمات الرئيسية للسكان من غذاء ووقود ومأوى، في حين يتمكَّن المجتمع المتين من تلبية هذه الاحتياجات عبر تكييف الموارد المحلية المتوفِّرة على نحوٍ مناسبٍ لجميع الأفراد والمساهمة في تعويض خسائر الحرب، ويكون على الجهات الحكومية والأمنية والوكالات الدولية مسؤولية صيانة وتوفير خدمات الطوارئ مثل الكهرباء والغذاء والماء، والمساعدة في إعادة إعمار المباني المتضررة (2)، وبدورها ترتبط الجغرافيا السياسية عادةً بالحروب الداخلية والصراعات المسلحة المحلية وانهيار الدول والنزوح القسري للسكان؛ إذ تظهر عملية حفظ السلام وإعادة بناء الدولة وفق معايير دولية أساسًا لعملية التعافي وإعادة الإعمار، ويبقى السياق المحلي للصراع والظروف الداخلية المحيطة أساس نجاح أو فشل جهود التعافي الجيوسياسي ضمن خطة إعادة الإعمار بعد الحرب (5).
ولتحديد حجم التعافي الجيوسياسي لا بُدَّ من التمييز بين نقاط القدرة والعجز في الموارد الاجتماعية والمادية المتوفرة لدى المجتمع المستهدف، فعلى سبيل المثال، إنَّ تعطُّل خدمة معينة كالكهرباء أو الماء تتطلَّب قدرة مادية لصيانتها وإعادة توفيرها للمواطنين، في حين يُعد العمل المجتمعي المشترك والتنسيق الفعال نقطة قدرة اجتماعية مهمَّة، وقد يرجِّح غيابها كفَّة العجز بالموارد الذاتية، وعندما ترجح كفَّة العجز المادي والاجتماعي فهنا لا بُدَّ لنا من استشعار إخفاق المبادرة الجيوسياسية الداخلية للتعافي التي قد تفاقم من سوء الوضع المعيشي والأمني، والذي قد يعزِّز من جديد حركات النزوح الداخلية والخارجية، لذلك فإن تعزيز ومراقبة القدرة المادية والاجتماعية للمجتمع عبر الدعم الحكومي والمنظمات الدولية يساهم في نجاح خطة التعافي على المدى القصير والطويل (2).
وبالتالي فإنَّ عملية التعافي الجيوسياسي مرتبطة بقوة بالقضايا الداخلية المحلية للبلدان وخاصةً المرتبطة بالنزوح والعودة بعدِّها صراعًا جيوسياسيًّا حول المكان؛ فالجيوسياسية المحلية تعتمد مباشرةً على الظروف الخاصة للمكان، متضمِّنةً الخصائص العرقية للسكان قبل الحرب، وجغرافية التطهير العرقي، وطبيعة حركات النزوح وتوجهاتها، وبنية السلطة في زمن الحرب، والديناميكيات السياسية المسيطرة بعد الحرب.
بعد الصراع الطويل في حالة البوسنة، على سبيل المثال، كانت قضية عودة اللاجئين والنازحين نواة الأزمة الجيوسياسية المحلية بعدِّ عملية العودة تطورت بوصفها صراعًا على القدرة والسلطة بين المجتمع الدولي والأقليات العازمة على العودة من جهة والسلطات العرقية القومية المحلية المهيمنة على البلاد من جهة أخرى والتي كانت تسعى إلى عرقلة عملية العودة، مشكِّلةً بذلك أزمة جيوسياسية محلية كبيرة عرقلت عملية التعافي المستدام في البوسنة بعد الصراع (5).
من ناحيةٍ أخرى، فقد تُؤثِّر التوترات الجيوسياسية الخارجية بين البلدان وخصوصًا في الاقتصاد السياسي لمرحلة التعافي وإعادة الإعمار؛ إذ يُعدُّ ارتفاع المخاطر الجيوسياسية مؤشِّرًا لانخفاض الاستثمار والعمالة ويرتبط بزيادة احتمالية تجديد العواقب السلبية للصراع، مؤثِّرةً في تدفُّق رأس المال عبر البلدان بوصف هذه المخاطر محرِّكًا لتقلبات الأعمال والسوق الاستثمارية بينها (6).
وعلى سبيل المثال، من مبادئ التعافي الجيوسياسي التي أوصى بها هنري كيسنجر الخبير والاستشاري الجيوسياسي الأمريكي حيال الأزمة الأوكرانية؛ أنَّ أوكرانيا لا يجب أن تنحاز إلى الشرق أو الغرب ولا يجب أن تكون بمثابة بؤرة استيطانية لأيٍّ من الطرفين ضد الآخر بل عليها أن تكون بمثابة جسر سلام بين جميع الأطراف؛ إذ تتمثل السياسة الحكيمة في البحث عن وسيلة للتعاون بين أطياف المجتمع الأوكراني، وترجيح كفة المصالحة على هيمنة الفصيل الواحد، وينبغي على القادة أن يعودوا إلى فحص وتقييم نتائج الحرب والاستفادة منها، بدلًا عن التنافس في المواقف، ومن ضمن توصيات كيسنجر للتعافي الجيوسياسي الأوكراني ضرورة أن يتمتع البلد بكامل الحق في ارتباطاته الاقتصادية والسياسية بحرية، لا سيما مع الدول الأوروبية، وينبغي لأوكرانيا أن تكون حرة في تشكيل حكومة متوافقة مع إرادة الشعب الأوكراني، مؤكِّدًا أهمية التجربة الفنلندية في تحقيق الاستقلال الحقيقي والعلاقة الحرة مع الغرب دون فتح أي مجال للصراعات مع أي دولة أخرى، وهذا الذي يفتح لسلام وتعافي مستدامين (7).
في الختام، لا بُدَّ لسورية في هذه المرحلة المهمَّة من تاريخها أن تُقبل على تعافي جيوسياسي داخلي وخارجي يمكِّنها من خلق بيئة عمل حكومية ملبية لتطلعات كل أطياف المجتمع السوري من جهة، وإعادة تشكيل علاقات جيوسياسية صحية مع دول العالم تساهم في فتح مجال الاستثمار المستدام ودفع عجلة الاقتصاد السوري إلى الأمام، ومن المهم في هذا الصدد أن نبني بيئة عمل عادلة ومتوازنة في الحقوق والواجبات ليس فقط من قبل الحكومة، بل من قبل الحكومة والناس والمجتمع الدولي معًا، لتعود بالمنفعة على كافة مسارات الحياة السورية.
المصادر:
2. Soennecken B. The Geopolitics of Postwar Recovery. In: Flint C, editor. The Geography of War and Peace: From Death Camps to Diplomats [Internet]. Oxford University Press; 2004 [cited 2024 Dec 26]. p. 0. Available from: هنا
3. Klare M. The new geopolitics. Monthly Review. 2003 Jul 1;55(3):51–7. Available from: هنا
4. Hu W, Shan Y, Deng Y, Fu N, Duan J, Jiang H, et al. Geopolitical Risk Evolution and Obstacle Factors of Countries along the Belt and Road and Its Types Classification. International Journal of Environmental Research and Public Health. 2023 Jan;20(2):1618. Available from: هنا
5. Dahlman C, Tuathail GÓ. Broken Bosnia: The Localized Geopolitics of Displacement and Return in Two Bosnian Places. Annals of the Association of American Geographers. 2005 Sep 1;95(3):644–62. Available from: هنا
6. Caldara D, Iacoviello M. Measuring Geopolitical Risk. American Economic Review. 2022 Apr;112(4):1194–225. Available from: هنا
7. Henrikson AK. The Trauma of Territorial Break-up: The Russia-Ukraine Conflict and Its International Management—Geopolitical Strategy and Diplomatic Therapy. Geopolítica(s): revista de estudios sobre espacio y poder. 2022;13(1):15–40. Available from: هنا