حمّامات الشام، مكانٌ مخفيٌّ ونعيمٌ منسيّ.
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
منذ البدء، لم يكن الحمّامُ الدمشقيُّ مجرد مكانٍ للاغتسال، بل فسحةٌ تفنَّنَ أهلُ دمشقَ في تزينِيها وزخرفتِها، فكان الذهاب إلى حمّام السوق طقسٌ جماليٌّ وملتقى اجتماعي، ومتعةٌ لا تضاهيها متعة، وليصبح المثلُ الدّارجُ "دخول الحمّام مو متل خروجو" خير دليلٍ على تبدّل الحال وانشراح البال وزوال الأدران بعد دخوله.
هل سبق لكم أن زُرتم حمّام السوق؟
ربّما فعلتم ذلك على سبيل الفضول، أو لإحياء تراث الأجداد، أو زيارةٌ عابرةٌ مع الأصدقاء، حسناً إليكم هذه المعلومة: في البيوت الدِمشقية القديمة، تلك التي تُشتهر بِسعة صحن دارِها وباحتِها وقاعاتِها وغرفِها الكبيرة والعديدة، لم يكن للحمّام وجودٌ يُذكر، باستثناء الدّور الكبرى المشهورة، كما لو أنّه غرفةٌ مُلحقة لا أهمية لها، رغم أن لا تكاد تخلو دارٌ دمشقيةٌ من نافورة ماءٍ تتوسط الدار.
فكيف لهذا البيتِ العامر بكلّ شروط الحياة وما يتطلبه جمالُ الدار ونظافة المسكن من متطلبات، أن يخلو من الحمّام!
إنّ فِعلَ الحمّام لم يكن عادةً في تلك الأزمنة، بل طقسٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والذهابُ أسبوعياً إلى الحمّام هو ليس فقط بقصد التطهر والنظافة الشخصية، بل فعلُ متعةٍ أشبه بـ "نزهة" تُؤخذ لها عدّة الطعام والشراب، وزوّادة من الأغاني والحكايا، ليصبح مشوار الحمّام طقسٌ له صبغةٌ اجتماعيةٌ مبهجة بموعد محدّد يُنتظر كل أسبوع.
ويحقُّ لتلك المدينة الشهيرة بنهرها (في أيام مجد بردى) بفروعه السبعة أن تمتلك من الحمّامات ما لم تمتلكه مدينة أخرى، فكل حيّ لديه حمّامه الخاص به. كما تميّز كل حمّام عن غيره فلا تشابه إلّا في أقسام الحمّام المتعارف عليها، لكن ما تبقى فهو هوية الحمام المميزة، لتتبارى الحمّامات في عمارتِها مِما جعلها آيةً في الفنّ المعماري بفخامة بنائِها وتزينيها بالزخارف والنقوش ورصفها بالرخام والقيشاني.
اختلف المؤرخون على تعداد حمّامات المدينة التي كانت تزداد باستمرار، حيث لم يكن يخلو حيٌّ منها فهي حجر زاوية في زقاق حتى بلغت أوجها في القرن الثامن عشر.
وبلغ مجموع ما أُحصي من الحمّامات (167) عدا عن الحمّامات المتناثرة حول دِمشق في غوطتِها، وما قد يدعو للأسف أن هذه الأماكن اندثرت بمعظمها وما تبقّى منها اليوم لا يتعدّى بضعة حمّامات بعد أن مرّ على دمشق ما مرّ من زلازل وحرائق ومصائب وغزوات، بعد أن أصبح الحمّام من ذكريات الأيام الخوالي، وتقليد شعبي يُقام بين الحين والآخر.
ومن أشهر الحمّامات الحالية:
حمام النوفرة (قرب مقهى النوفرة الشهير).
حمام الشيخ بكري (في جادة النحوي في باب توما).
حمام نور الدين (سُمّي نسبةَ إلى السلطان نور الدين الشهيد).
حمام الشيخ أرسلان (باب توما).
حمام الملك الظاهر (غرب الجامع الأموي، جانب المكتبة الظاهرية).
حمام الورد (آخر سوق ساروجة).
حمام الجوزة (وسط سوق ساروجة).
حمام عزّ الدين (باب سريجة).
أما عن تاريخ الحمّامات، فهو قديمٌ قِدم أبوابِ المدينة العريقة، انتشرت في العهد الروماني واستمرت. وقد اشتُهرت حمّامات دِمشق دوناً عن حمّامات الشرق كلّه، حيث أجمَع المؤرّخون مِمّن ساحوا في أنحاءِ الممالك والدّيار الشرقية على تفضيل الحمّامات الدمشقية لما فيها من الإتقان والنظام والهندسة وغزارة المياه وإتقان الخدمة والإكرام والإعتناء، بالإضافة إلى بخس الأجرة بالمغتسل.
بعد الاسترسال في موجزٍ بسيطٍ عن تاريخ الحمّامات، لابدّ من زيارة خاطفة لها وإن كان الحديث لا ينقلُ الصورة الصادقة ولا التجربة الممتعة:
الدخولُ أولُ ما يكون إلى المكان الذي تودعُ به حاجياتك الخاصة، لتدخل لعند "المصطبجي" فتحصل منه على عدّة الحمام من المناشف والصابون وغيرها، بعدها يواجه الزائر قسم "البرّاني" بمصاطبه المرتفعة، وهو بوابة الدخول التي تعكس الجمالية المعمارية للحمّام ببركةٍ تتوسط البهو والرخام المعشّق بالزخارف والنقوش، تجلس هناك لتنزع ثيابك وتلتف بلباس الحمام، لتدخل إلى القسم "الوسطاني"، وهو القسم الذي يتوسط البرّاني والجوّاني ويكون معتدلَ الحرارة تقامُ فيه نشاطاتُ ما بعد الاغتسال.
ندخلُ أخيراً إلى القسم "الجوّاني"، وهناك تتصاعدُ الأبخرةُ نتيجة الحرارة العالية، وينقسمُ الجوّاني إلى مقصورات، كلّ مقصورة تحوي وعاءً رخامياً للاغتسال يُطلق عليه اسم "جرن"، وقد تحوي المقصورة الواحدة أكثر جرن.
في داخل الجوّاني يوجد "القميم" والمسؤول عنها هو "القميقي"، والقميم هو الموقد الذي يسخّن مياه الحمام.
في "الجواني" تُنهك الأجسادُ بالتدليك والجلدُ بالفرك، حتى يحمرُّ لكثرة فركه بأكياس سوداء خشنة تجدّد خلايا الجلد.
يخرجُ روّادُ الحمّام بعد الاغتسال من الجوّاني إلى الوسطاني، وهناك يأخذون قسطاً من الراحة، ليتناولوا الطعام والشراب، ولتبدأ جلساتُ السّمَر وتجاذبُ أطراف الحديث، وللغناء والرقص أيضاً، ولإحياءِ طقوسِ ولادةٍ أو زواجٍ ومناسبات عدّة يصبحُ لها نكهةٌ أخرى فريدة على وقع موسيقى دفٍّ أو عود، ترافقه أصوات المياه من الداخل ويتخلّل المكان جوٌّ من الغبطة والسرور.
أخيراً العودة إلى"البراني"، حيث الحرارةُ المعتدلة والاستراحة من الرحلة الممتعة في رحاب الحمام، بعدها يتم ارتداء الملابس النظيفة، وبعد أن تعتدل حرارة الجسم، يودّع الزائر يوماً مميزاً على أمل عودة قريبة.
من المحزن أن يختفي هذا الطقس الاحتفالي الفريد ليصبح نسياً منسياً، من المحزن أن يصبح مرورنا إلى الحمّام مقتصراً على حالة استذكارٍ لتراث الأجداد عبرَ مقطعٍ ما أو لقطةٍ عابرةٍ في دراما سورية شامية، أو نوستاليجيا تصيبنا حين نمرُّ على أطلال حمّامٍ أحالهُ إهمالُنا إلى أطلالٍ بالية، بل أكثر من ذلك... إلى مكانٍ مهجور!!
من المحزن أنّ ما كان يُعتبر مكاناً لاجتماع العائلة والأصدقاء ولإحياء المناسبات الحميمة فقد قيمتَه باعتباره جزءاً من النسيج الاجتماعي لهذه المدينة.
إن صح المثل الشاميّ القائل: "نعيم الدنيا.. حمّام"، فهل فقدت مدينتُنا نعيمَها؟!
المراجع:
-"عدة الملمات في تعداد الحمامات"، يوسف عبد الهادي.
-"الروضة الغناء في تاريخ دمشق الفيحاء"، نعمان أفندي قسطالي.
-مقال للناقد أ.محمد منصور عن الحمامات الدمشقية في نادي الفكر العربي.