يمكن للناظر إلى النجوم في سماء الليل الصافية أن يرى الآلاف منها تتلألأ على صدر السماء بهاءً وجمالًا، فتُثير في نفسه مشاعر الهدوء والسكينة.لكن بعيدًا في أعماق المشهد المنظور تكون الصورة مختلفةً تمامًا. فالكون في تبدُّل دائم، وفي الغالب يكون هذا التبدُّل عنيفًا مترافقًا مع انطلاقاتٍ هائلة للمادة أو الطاقة أو كلتيهما معًا. من هذه التبدلات الجارية في الكون تصادم المجرات، الذي يمكن تسميته أيضًا "التهام المجرات"، لأن المجرات تُبدي في هذه العملية وحشيةً لا تقل عن الوحشية التي نلمسها عندما نتحدث عن آكلي لحوم البشر.
لعل الفلكي إدوين هابل Edwin Hubble أول من تحدَّث عن تصادم المجرات. فقد كان في العام 1910 يدرس حركة الأجرام في سماء الليل مستعينًا بمقراب (تلسكوب) هوكر Hooker الواقع في أعلى قمة جبل ويلسون Mt. Wilson. يبلغ قطر هذا المقراب 100 بوصة أي ما يزيد عن المترين ونصف المتر. وقد سمُّي هذا المقراب على شرف جون هوكر John D. Hooker الذي موَّل عملية صناعة المرآة العملاقة للمقراب. كان هابل يحسب سرعة ابتعاد الجرم أو اقترابه منَّا، وتُعرف هذه السرعة باسم السرعة الشعاعية radial velocity فهي سرعة الجسم باتجاه خط النظر الواصل بين الراصد وبين الجرم المدروس. يُفيد تحليل الضوء الوارد من الجُرم في تحديد السرعة الشعاعية له. فلو كان الجرم يبتعد عن الراصد لعانى الضوء الوارد من الجرم ازديادًا في طول موجته، فيتغير لونه ليقترب أكثر فأكثر من الطرف الموجود فيه اللون الأحمر من الطيف، وهذا ما يُسمى اختصارًا الانزياح نحو الأحمر redshift. وسيحدث الأمر المعاكس عند اقتراب الجُرم إلى الراصد، فينزاح الضوء نحو الأزرق. يشبه هذا الأمر شعورنا بالفرق في صوت مركبةٍ تمرُّ بالقرب منَّا، فعندما تبتعد يميل صوتها إلى الغِلظة، وإلى الحِدَّة عندما تقترب.لقد استنتج هابل من خلال الحسابات التي أجراها أن معظم الأجرام الواقعة خارج مجرتنا ينزاح ضوؤها نحو الأحمر، الأمر الذي يعني أنها تتحرك مبتعدةً عن مجرة درب التبَّانة. كان الأمرُ الأكثرُ أهميةً بالنسبة لعلماء الفيزياء الفلكية أن أرصاده برهنت على أن الكون يتوسع، لكنها – من ناحيةٍ أخرى - أظهرت أن مجرة المرأة المسلسلة Andromeda ينزاح ضوؤها نحو الأزرق، ما يعني أنها تقترب منَّا!
تقبع كوكبة المرأة المسلسلة Andromeda بين كوكبة الكرسي Cassiopeia وكوكبة الفرس الأعظم Pegasus الواقعتان في الشمال، ويمكنك تمييز بقعةٍ ضبابيةٍ صغيرة فيها، تُدعى هذه البقعة بالرمز M31 أو باسم مجرة المرأة المسلسلة، وتُعدُّ أبعدَ جُرمٍ يمكن رؤيته بالعين المجردة. وفي الحقيقة، فإننا مع مجرتنا درب التبانة، نندفع بسرعةٍ نحو المرأة المسلسلة. والمرأة المسلسلة مجرةٌ عملاقة تحوي حوالي ترليون نجم(ألف مليار نجم). وتبلغ مجرة درب التبانة حوالي 80% من حجمها، لهذا سيؤدي تصادم مجرة المرأة المسلسلة مع درب التبانة إلى انتزاع النجوم من مجرتنا، وتكوين مجرةٍ جديدةٍ هائلةِ الحجم.
لكن، وقبل أن نفصِّل في شرح تصادم المجرات، سنحاول أن نُجيب عن سؤال لعله يدور في الخَلَد وهو: كيف تتصادم المجرات وهي تتكون من نجومٍ بينها مسافاتٍ تُقاس بآلاف بل وملايين السنوات الضوئية؟! في الواقع وعلى الرغم من وجود هذا "الفراغ" الكبير بين النجوم التي هي لبناتُ بناءِ المجرة، إلا أنه تسود هذا الفراغ قوى تجعل النجوم تتماسك فتصبح المجرة جسمًا واحدًا. يمكن تشبيه الأمر بمثالٍ ملموسٍ أكثر. فالذرة التي هي اللَّبنة في بناء المادة التي نعرفها ونتعامل معها يوميًا تتكون من نواةٍ تدور حولها الإلكترونات في سوياتٍ طاقية محددة. والواقع أن 99% من حجم الذرة هو "فراغ"! لكن مع ذلك نجد أن الأجسام التي نألفها تتصادم.الأمر نفسه يكون في المجرة مع فارقٍ رئيس، هو القوى المسيطرة في هذا الفراغ، ففي حالة المجرات تكون الثقالة gravity (الجاذبية).
كيف يحدث تصادم المجرات؟تتبادل المجرات التأثير فيما بينها لأنها تقع في الحقل الثقالي لبعضها البعض. وتبدو في الصور الملتقطة للمجرات بعضُ المجرات قريبة من بعضها البعض، الأمر الذي يُدلل على أنهما على وشك التصادم. طبعًا ليست جميع المجرات التي تظهر في الصور وكأنها فوق بعضها هي فعلًا قريبةٌ من بعضها البعض، بل قد يكون بينهما آلاف السنوات الضوئية. ويستعين الفلكيون بالعديد من الطرائق لقياس المسافات بين المجرات، لمعرفة ما إذا كانت اثنتان من المجرات في طور التصادم، ولكن تبقى الطريقة الأسهل هي البحث عن صور المجرات المُشوَّهة.
لعل أولى المؤشرات على اندلاع الحرب بين مجرتين وجود دفقٍ من النجوم منبعثٍ من كلِّ مجرةٍ من المجرتين المشتبه بهما. وشرح الآلية التي بها يتشكل هذا الدفق أمرٌ بسيط: في البداية دعنا نُسمي إحدى المجرتين بالحرف (أ)، والأخرى بالحرف( ب). عند اقتراب المجرتين من بعضهما ستخضع النجوم الموجودة في المجرة (أ) إلى قوة الجذب الثقالي الناتجة من المجرة( ب)، غير أن النجوم من المجرة الموجودة في الطرف المواجه (أو الأقرب) للمجرة ب سيكون تأثُّرها أكبر، لأن قوة الثقالة تتناسب عكسًا مع المسافة، أي كلما نقصت المسافة بين الأجسام زادت القوة. سيستمر اقتراب المجرتين من بعضهما إلى أن يصل إلى الحد الذي تُصبح في قوة جذب المجرة (ب) للنجوم الموجودة في الطرف القريب من المجرة( أ) أكبر من أن تستطيع المجرة أ أن تُبقيهم فيها. الأمر الذي يُسبب نشوء دفقٍ من النجوم والغبار والغازات ينجرُّ من المجرة (أ) متوجهًا إلى المجرة (ب). غير أن ما ذكرناه عن تأثير المجرة ب على نجوم المجرة أ ينطبق بشكلٍ معاكسٍ تمامًا، أي تؤثر المجرة أ على نجوم المجرة ب بالطريقة نفسها التي تم وصفها.لكن ماذا ستكون النتيجة؟
يمكن أن تنتهي هذه العملية، أو المعركة بين المجرتين إلى إحدى نهايتين. فإذا ما كانت المجرتان تتحركان بسرعةٍ كبيرةٍ كفايةً فكل ما سيبقى بعد تحطُّم المجرتين كتلة مشوَّهة من النجوم، وأطلال حُطام المجرتين. وإذا كانت إحدى المجرتين تتحرك بسرعةٍ كبيرةٍ كفاية يمكن لها أن تُحدث ثقبًا في المجرة الأخرى الضحية، فتتركها على شكل سوارٍ من النجوم.
أما الاحتمال الآخر فهو اندماج المجرتين مع بعضهما، وفي هذه الحالة تكون الغلبة للأكبر، فهو سيكون الأقوى. فالمجرة الأكبر ستكون لها كتلةٌ أكبر الأمر الذي سيمكنها من ابتلاع المجرة الأخرى، وهو ما تعاني منه مجرتنا درب التبانة.
ففي غضون ملياري عام ستصبح مجرة المرأة المسلسلة ومجرة درب التبَّانة في محاذاة بعضهما البعض، الأمر الذي سيقدح عملية الاندماج، أو بالأحرى التهامَ المرأة المسلسلة لدرب التبانة. وسيتسبب الاقتراب بين المجرتين بزحف صفِّ طويلٍ من النجوم من كلِّ مجرةٍ نحو الأخرى قبل أن تندمجا معًا، مشكِّلَتَين مجرةً واحدةً ستكون بيضاويةَ الشكل منتفخة في وسطها، بدلًا من الشكل الحلزوني الذي تتخذانه كلتاهما الآن. وستعيق هذه المجرة الناتجة تشكُّل عشراتٍ غيرها في جوارنا الكوني.
ماذا عن الشمس، يُثير طرح موضوع تصادم المرأة المسلسلة مع درب التبانة تساؤلًا عن مصير الشمس، نجمنا ومصدر حياتنا على الأرض.في الواقع فإن إضافة تريليونات من النجوم إلى المجرة سيؤدي إلى دفع الشمس، التي تقبع حاليًا في طرف مجرة درب التبانة القصي،على أحد أذرعها الخلزونية، إلى الداخل، لتُصبح في قلب المنظومة المتشكلة من اندماج المجرتين. وقد عرف العلماء ذلك اعتمادًا على المحاكاة الحاسوبية التي أجرَوها. لكن يوجد أيضًا احتمال يبلغ 1 في 10 بأن يتم طرد الشمس من المجرة خلال هذه العملية، غير أن عملية الطرد هذه لن يكون لها سوى تأثيرٌ ضئيلٌ على الحياة على الأرض، يتمثل هذا التأثير بتغيُّر مظهر السماء في الليل. ذلك أن مدارات الكواكب أو التوابع (الأقمار) في النظام الشمسي ستبقى كما هي، أي أن منظومة الشمس مع كواكبها ستُغيِّر موضعها في المجرة.وإذا ما تم قذف الشمس إلى ضواحي المجرة القصية، إلى منطقةٍ غير معمورةٍ من الفضاء، أي منطقة لا توجد فيها نجوم، ستختفي من منظر السماء في الليل تلك المنطقة المضيئة التي ندعوها درب التبانة. كذلك ستختفي الآلاف من النقاط البرَّاقة للنجوم المجاورة لنا، التي تُرصِّع السماء، مخلِّفةً وراءها سماءَ ليلٍ أكثر ظلمةً.
أما إذا ما انتهى الأمر بالشمس بحيث تُصبح أقرب إلى مركز المجرة فستمتلئ سماء الليل بنجومٍ جديدةٍ، وقد تُصبح مشاهدتها أكثر روعةً.
لم يبلغ فهمنا لتصادم المجرات مداه، فما زال ينقصنا الكثير لنتعلمه. لهذا فإنك عندما تُحدِّق في النجوم في المرة القادمة، انظر إلى المرأة المسلسلة وتفكَّر في الدمار الذي سيحدثه ذلك الجرم الضبابي الضئيل يومًا ما بالمجرة.

المصادر:
هنا
هنا
هنا