كيف يمكن لظاهرة خطيرة أن تشفي مرضاً نادراً!
البيولوجيا والتطوّر >>>> علم المورثات والوراثة
إنَّ جزءاً من أحد الكروموزومات (الصبغيات) لديها تفكك إلى 18 قطعة خلال عملية استنساخ أحد الخلايا الجذعية الدموية، ليتم بعدها إعادة تجميع تلك القطع من جديد، في عملية تشبه إعادة تجميع إناء مكسور، و لكن مع ذلك بقيت قطعة مفقودة تحوي على 164 مورثة بما فيها الجين المسؤول عن الحالة المرضية التي كانت تعاني منها.
يعتقد الباحثون أنَّ العملية حدثت في مكان ما في نقي العظام، ثم قامت الخلايا الجذعية - التي فقدت الجين المسبب للمرض - بإعادة توطين جهازها المناعي، وبذلك أصبح نقي العظيم سليماً، الأمر الذي أدى إلى الشفاء من المتلازمة.
كيف يمكن لهذا أن يحدث؟!
بدأت القصة قبل سنتين فقط، عندما تواصلت إمرأة تبلغ 59 عاماً من عمرها (مصابة بما يعرف WHIM) مع الباحثين في المعهد الوطني للأمراض المعدية والتحسسية (NIH)، والذين قاموا بدراسة متلازمة نقص المناعة الوراثي WHIM، حيث صرحت هذه المرأة في ذلك الوقت بأنها وابنتيها يعانون من اضطراب وراثي جسمي مسيطِر.
لم يكن ذلك أمراً عادياً بالنسبة للباحثين، أن يتصل بهم أحد المصابين بمتلازمة WHIM ليخبرهم عن مرضه، فخلال الخمسين عاماً الماضية كان مجموع الحالات التي تم تشخيصها بهذا المرض أقل من 60 حالة في كل أنحاء العالم، لكن ما أثار اهتمام الباحثين بحالتها هو أنَّها أول طفلة تم تشخيص إصابتها بهذا المرض عام 1964، وقد بقيت تصارع في دوامة ذلك المرض، تتعرض لالتهابات خطيرة متكررة، وبثور جلدية ناجمة عن حساسية لاتفسير لها لفيروس الورم الحليمي البشري أو ما يعرف بـ papillomavirus.
وكانت الصدمة كبيرة للباحثين عندما أخبرتهم الأم بأنها تعافت تماماً من المرض في الثلاثينات من عمرها، إذ كان تفسير هذه الحالة علمياً شيئاً مستحيلاً، إذ لا يمكن لمرض أن يختفي ببساطة!
في الحالات العادية، يملك الشخص الطبيعي نسختين من جين يدعى (CXCR4)، يرمز هذا الجين للمستَقبِل على سطح الخلية لتبادل التنبيهات المناعية. أما الأشخاص المصابون بمتلازمة WHIM فإنهم يملكون نسخة وحيدة فقط طبيعية والأخرى طافرة من الجين نفسه. ينتج هذا الجين المشوَّه مستقبلات شاذة ترسل إشارات بصورة مفرطة على سطح الكريات البيضاء، هذا يشبه إلى تقريباً ما يحدث لسيارة في حال كانت دواسة البنزين عالقة على أشد سرعة. حيث تقوم الإشارات الفائضة بتثبيط القدرة على نمو الكريات البيضاء الفتية في نقي العظم إلى خلايا بالغة (الوحيدات والمتعادلات)، وتمنع وصول إمدادات كافية إلى مجرى الدم للمساعدة في محاربة الالتهابات.
و بعد القيام ببعض الفحوصات الأولية لتلك العائلة، تبيَّن في النتائج المُقَدَّمة أنَّ المرأة لم تعد تعاني من نقص في تعداد كرياتها البيضاء - وهذا أمر غير ممكن في حال الإصابة بـالمتلازمة WHIM - وكان التفسير الوحيد الذي استطاعوا أن يخرجوا به هو أنَّ النسخة الطافرة من الجين CXCR4 لديها قد اختفت بطريقة ما، ولكي يتأكد الباحثون من شكوكهم قاموا بفحص الكريات البيضاء لهذه المرأة، وبالفعل لم يجدوا هذه الجين فيها، لكن عند فحصهم لخلايا أنسجة أخرى في جسمها، وجدوا أنَّ الجين الطافر مازال موجوداً فيها، الأمر الذي يفسر توريثها المرض لاثنتين من بناتها الثلاث.
وبعد القيام بالمزيد من فحوصات الـDNA، وجد الباحثون تقطعاً وإعادة ترتيب للكروموزوم 2 (كما هو موضح في صورة المقال) المتواجد في خلايا الدم البيضاء عند الأم (إلَّا أنها ليست في الخلايا الجلدية). و هذا ما دعاهم للتوصل إلى تفسير قوي ومدهش في ما يخص هذه القضية و هو أنه:
في إحدى الخلايا الجذعية المسؤولة عن تشكيل الدم في نقي العظم عند هذه المرأة، خضع جزء من الصبغي رقم (2) لعملية تقطيع وإعادة ترتيب، وسميت هذه الظاهرة إعادة الترتيب الصبيغي Chromothripsis والتي تعني باليونانية "تحطم الصبغي إلى أجزاء".
تمَّ التعرف في الأصل على ظاهرة إعادة الترتيب الصبغي Chromothripsis في الخلايا السرطانية، وكما يُعرف الآن فإنها تظهر في 2% من حالات السرطان، كما تمَّ التعرف على هذه الظاهرة في المتلازمة الإدراكية الخلقية الحادة، لكن ما لم يتوقعه الباحثون هو أن يكون مثل هذا الحدث الكارثي هو علاج للمرض، وقد افترض أحد الباحثين أنَّ فقدان الجين الطافر CXCR4 يعطي الخلية القدرة على النمو والانقسام، وفي نهاية المطاف استبدال جميع الخلايا الجذعية الحاملة لطفرة WHIM الممرضة.
في النهاية، لا بد من التنويه أنَّ لا علاجات معتمدة لمتلازمة WHIM حتى الآن، لكن التعرف على هذه الحالة المميزة يشير إلى أنَّ التلاعب بالخلايا الجذعية لنقي العظم لتثبيط الجين الطافر قد يوفر استراتيجية جديدة للعلاج في المستقبل.
شرح صورة المقال:
النمط الصبغي لإمرأة شفيت تلقائياً من متلازمة WHIM. أُخذت أزواج الصبغيات هذه من خلايا الدم البيضاء، بالنظر إلى الزوج الصبغي رقم (2)، يظهر الصبغي الطبيعي على اليسار، والصبغي المتقطع على اليمين.
المصادر:
هنا
هنا