elBulli عندما تمتزج العمارة مع المذاق
العمارة والتشييد >>>> التصميم المعماري
فيران أدريا، مالك ورئيس طهاة مطعم elBulli (الذي كان يعد أفضل مطاعم العالم)، أتبع نهجاً مميزاً في تحضير الطعام وكل ما يتعلق بتناول الطعام. مماثلاً بذلك فلسفة المهندسين المعماريين في فهم المادة وكيفية استعمالها وتصميم واكتشاف الحيز والفراغ المعماري. فحوّل فيران أدريا عالم الطبخ والوسائل التقليدية لتناول الطعام إلى لحظات لا تُنسى، تندمج فيها التجربة والمذاق بالذاكرة. وهذه الخصوصية كانت السبب الرئيسي في حصول elBulli على شهرة عالمية كرائد في تقديم أصناف الطعام الجديدة. فكان يستقبل المطعم في كل عام حوالي 2،000،000 طلب حجز ينجح منهم حوالي 8000 شخص فقط بالحصول عليه. للأسف، بتاريخ 30 تموز/يوليو من عام 2011 فتح elBulli قسم حجوزاته للمرة الأخيرة بعد مرور حوالي 50 عاماً من افتتاحه ليتحول بعدها إلى مؤسسة بحثية. حيث حمل عام 2014 بداية فصل جديد في حياة elBulli وتمت إعادة افتتاحه كمؤسسة للبحوث الفكرية الرائدة في أسس الطّهي.
لنستطيع فهم مخططات elBulli المستقبلية وأهدافه يجب علينا أن نفهم بشكل أفضل من أين جاء وما هي فلسفته.
بدأ فيران أدريا الكتالوني في سن الثانية والعشرون عمله كطباخ ليصبح بعد 18 شهراً فقط رئيساً للطهاة. وذلك في مطعم elBulli الواقع ضمن خليج كالا مونتويي Cala Montjoi الجميل والمنعزل قرب مدينة الورود في محافظة جيرونا، شمال إسبانيا، التي تبعد مسافة بضع ساعات عن مدينة برشلونة.
كان المطعم يفتح أبوابه لمدة ستة أشهر فقط من كل سنة، من نيسان/أبريل تحديداً حتى نهاية أيلول/سبتمبر، الّتي هي موسم العطلات الصيفية والوقت المثالي للحركة السياحية في هذه المنطقة. ولكن منذ عام 1987 أصبح السبيل الوحيد لتجهيز قائمة الطعام المقدمة للستة أشهر الصيفية، هو قضاء الستة الأشهر الشتوية في ورش عمل في مدينة برشلونة لوضع خطة لتحضير أطباق وأصناف الطعام للموسم المقبل. سمح لهم هذا المستوى العالي من الصرامة بتقديم خدمة واحدة في اليوم فقط، وذلك بتقديم أصناف طعام عديدة تزيد عن 30 صنف وبتخصيص 4 ساعات خدمة لوجبة العشاء.
هناك ما بين ستين وسبعين شخصاً يعملون في elBulli، وذلك بالاعتماد على الوقت من السنة، مما يجعل عدد الموظفين كمتوسط أكبر من عدد الروّاد. كان الطهاة يعملون ضمن مناوبات تدوم كل منها اثني عشر ساعة، أما الدورات الإبداعية الصباحية، التي يتم فيها تطوير أصناف الطعام وإعداد أطباق جديدة، بدأ الطهاة خلالها داومهم أبكر من الوقت المعتاد بثلاث ساعات. كان المطعم يتبع منحى مختلف في خدمته، فبدلاً من اختيار وجبات من قائمة الطعام كالشكل المعتاد، كان يتم تقديم ما يدعى بقائمة تذوق تحتوي ما بين ثمانية وعشرين إلى خمسة وثلاثين طبقاً لكل ضيف ليجربه. تضم هذه القائمة الكوكتيلات المتنوعة والوجبات الخفيفة والمقبلات والأطباق الرئيسية، كما تضم الحلويات. يكلّف العشاء في elBulli رغم اعتباره بحد ذاته تجربة لا تقدر، بثمن حوالي 250 € أو 335$ للشخص.
تم منح elBulli أربع من نجوم ميشلان العالمية، التي هي أعلى وسام يمكن لمطعم حيازته، لكن تمت إزالة نجمة عندما أصبح فيران أدريا رئيس الطهاة، وذلك وفقاً لقوانين حيازة نجمة ميشلان.
ستقوم المراحل المدرجة أدناه (التي تشرح مراحل تحضير صنف من الطعام في elBulli) بإجراء مقارنة بين النهج المتبع من قِبل فيران أدريا وبين مراحل تطور أي عمل معماري مهم:
• في ورشة العمل في برشلونة (نعم لديهم استوديو مستقل، كما هي الحالة في مخابر دراسة مواد البناء)، يطرح أحد أعضاء الفريق الإبداعي فكرة عن تقنية جديدة أو مفهوم لتحضير طبق.
• يتم تطوير الفكرة باستخدام طريقة واحدة أو أكثر من الطرق الإبداعية أو من خلال العمل بشكل يُعتمد فيه على الحدس.
• تجرى الفحوصات، ويتم توثيق النتائج مع الصور وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. إذا كانت الفكرة هي تقنية جديدة، يُجرى تجريبها في كثير من الأحيان لأول مرة على شيء محايد، مثل الماء أو المواد الأساسية النشوية مثل الجزر.
• يعتمد تحليل النتائج على اختبارات تستخدم حواس تذوُّق الطهاة، وجداول تبين تركيبات نكهة أطباق قُدِّمت سابقاً في elBulli.
• يُجرى اختبار نهائي وتسجل بعده النتائج ضمن قوائم النماذج الأولية، التي تم تطويرها لاحقاُ كطبق في مطبخ elBulli.
• يقدم الطبق الجديد للضيوف (في كثير من الأحيان على طاولة الشيف في المطبخ) ويتم جمع ملاحظاتهم. فالفرق الإبداعية تكون حريصة دائماً على معرفة كيفيّة استجابة الضيوف للأطباق الجديدة.
• تتم التصفيات. يمكن أن تكون المعايير جعل الطبق أسهل للأكل، لزيادة تناقضات الطعمات والمواد المكونة للطبق أو لتغيير طريقة عرض وتقديم الطعام.
• بعد الانتهاء، يتم إدراج الطبق في الكتالوج العام لأطباق الصيف المقبل.
إن فلسفة المطعم تنص على أن هناك نقطة بداية لإنشاء كل طبق جديد هي الدراسة المفصلة والدقيقة لكل منتج، يتم خلالها النظر في جميع صفاته، بما في ذلك شكله، ملمسه، نسبته، نكهته، كثافته، واستجابته لتقنيات الطبخ المختلفة. كل هذه الصفات تشكّل كامل البيانات الشخصية، شخصية المنتج أو "جيناته"، كما تُسمّى في elBulli. فمهمّة هذا الإجراء إبراز والتأكيد على هذا الجين للحصول على أفضل النتائج والسماح للعناصر المكونة له بالتّعبير عن صفاتها الطبيعية بشكل كامل.
إن الطبق هو محادثة بين رئيس الطهاة والضيف (تماماً على غرار وجهة نظر بيتر زومثور Peter Zumthor في علاقة الفراغ والمواد والشخص الّذي يختبر هذا الفراغ)، فمعرفة دور ووظيفة كل من رئيس الطهاة، النادل والزبائن ستساعدهم على تحقيق الغاية المرجوة من كل وجبة. حيث يؤدي النادل دوراً محورياً في السيطرة على المسافة بين الطهاة في المطبخ والضيف على طاولة الطعام، فيساعد بذلك الضيوف على التكيُّف مع إيقاع المطبخ وعلى التّمتُّع بوجبةٍ خاصة لا تُنسى. أما الضيوف فتكون لهم آراؤهم الخاصة، يعكسون فيها قيمة تجربتهم هذه، تصوراتهم عنها والإحساسات المختلفة المرافقة لها. يمكننا تصنيف كل ما سبق ذكره على النحو التالي:
1. الشيف: باعتباره كالمهندس
يتميز بـ: القدرة على إدراك الطعم والنكهات
الحس السليم والقدرة على الحكم واتخاذ القرارات
تنظيمه وحيازته على قدرات إبداعية وفنية تميزه
له فلسفة خاصة في مزج العناصر والنكهات للوصول إلى الغاية
خبرته في مجالات أخرى تتعلق بـ: الفن - الصناعات الغذائية – تقنيات العلوم والتكنولوجيا
معرفته تكمن في: ثقافة وتاريخ تقنيات الطبخ - المنتجات الغذائية - تكنولوجيا المطبخ
2. النادل: باعتباره شكل البناء
تتوقف مهامه على: خلق جو دافئ حميم خلال العشاء
يقدم الطعام إلى الزبائن
يشرح الأطباق والفلسفة الكامنة وراء وجبة الطعام
يتأكد من ضوابط ومعايير الجودة
يتحكم بالتواقيت بين أخذ الطلبات وتقديم الوجبات
3. الضيف: باعتباره المُتلقّي المتمتع بالتجربة
تحتوي تجربته على مستويات مختلفة تنحصر بـ:
• تجربة الطعام الجديد ومعرفة ماهيته وما يكمن وراءه من أفكار وفلسفة وذلك عن طريق مختلف: المكونات، الأطباق، المطاعم والطهاة، الأساليب والمميزات المتعلقة بكل صنف.
• استخدام مختلف الحواس أثناء تناول الطعام: البصر، السمع، اللمس، الشم، التذوق.
• الحاسة السادسة التي تتلخص بالقدرة على التمتع بالطبخ فكرياً، يفهم فيها الضيف ماهية الطبق وفلسفته مما يمكن أن يكون حافزاً لـ: استحضار ذكريات من الطفولة، الإحساس بشيء من السحر، التسلية، السخرية والاستفزاز، الملامس المختلفة للمكونات، المفاجأة، اكتساب معرفة جديدة والتعرُّف على فارق ثقافي وحضاري جديد.
• تستطيع الطعمات المختلفة الوصول لعقول الضيوف التي يفسرها كل شخص بطريقة مختلفة مما يكسبها طابع الفردية.
• تحريض الذاكرة لاستذكار مكونات تمت تجربتها سابقاً، وجبات عائلية، زيارات للمطاعم المختلفة، استحضار للرّوح والعواطف.
إن أهم أسباب إغلاق مطعم elBulli وتشكيل مؤسسة elBulli هو الحصول على الحرية والاستقلالية لخلق واكتشاف أصناف طعام جديدة. حقيقة مجرد أنهم لا يقدموا الطعام ويقومون بخدمة رواد المطعم لا يعني أنهم قد تخلوا تماماً عن ذلك. بل إنهم عوضاً عن ذلك يقومون بالتركيز على القيام بما يتميزون به بكل إخلاص ومحبة ويتقاسمون النتائج مع عدد قليل من الضيوف المفضلين الذين ترددوا على elBulli.
من خلال هذا التركيز على استكشاف كل ما هو جديد قرّر فريق عمل elBulli على تحويل منزلهم (المطعم) ليتناسب مع ما يحيط به. هو يقع في حديقة كاب دي كريوس الطبيعية Cap De Creus، فطوّروه بشكل يركزون فيه على حماية والحفاظ على التنوع البيولوجي الموجود في المكان والعمل على زيادته وتوسيعه. حيث يقول فيران أدريا في هذا الشأن، كاب دي كريوس Cap De Creus هو جنة حقيقية على هذه الأرض ونحن في elBulli محظوظين وسعداء بما فيه الكفاية لنسميها الوطن. لهذا السبب، فإن مؤسسة elBulli تأخذ على عاتقها أن تكون مشروعاً رائداً للحفاظ وتطوير المتنزهات الطبيعية في إسبانيا.
تابع فيران أدريا مسيرة الإبداع عن طريق مؤسسة elBulli كما كان الحال في مطعمه. ولم يتوقف عند مهاراته وإبداعاته في المطبخ بل عكس ذلك أيضاً في تطوير الناحية المعمارية بالاستناد على الأسس المعمارية الحديثة المتناسبة مع توجهاتهم الفلسفية. هذا المشروع يعد من المشاريع الرائدة في المنطقة بما يؤكد على كون مؤسسة elBulli سبّاقة في مجال عمارة وبنية الجزيئات.
إن المطعم المحوّل الآن إلى مؤسسة سيوفّر بيئة جديدة خصبة بالمعطيات والبيانات، التي سيكون نقل وتوزيع معلوماتها، معارفها وإبداعاتها أهم مهامها فتؤكد بذلك كونها "سحابة معلومات" تقنية. برأي بروفيسور الأنظمة الإسباني خورخي فاغينسبيرغ Jorge Wagensberg أنّ أكثر يميّز الجسيمات والأجزاء المكونة لشيء معين هو علاقتها مع بعضها البعض؛ حيث تشكل هذه العلاقات والترتيب فيما بينها بعبارة أخرى، المعلومات؛ جوهر هذه الأشياء. فاتّخذت elBulli المعلومات والبيانات الطبيعية المحيطة بها وحولتها إلى وسيلة لخلق نظام واقعي واحد لتأمين احتياجاتها من الطاقة وذلك باستخدام ما يسمونه سحابة 9. وفيما يلي نموذج من هذا النظام.
من حيث المبدأ يتكون الواقع المادي من نوعين الأول بنائي معماري والثاني كيميائي. تسعى مؤسسة elBulli من خلال السحابة 9 المذكورة سابقاً إلى تحليل هذين النوعين، الأول البنائي، من خلال الماسح الضوئي ثلاثي الأبعاد والثاني الكيميائي من خلال محطة رصد جوي. وبعد معالجة كافة البيانات والمعلومات من الواقعين (المعماري والكيميائي)، يستطيعون تصور واقع واحد ذو بنية معمارية واحدة تشكل أساس وعمارة مؤسسة elBulli.
من خلال استخدام برامج أخرى كانوا قادرين على اقتراح نقاط تساعد على تحسين البناء من خلال تصميمه البارامتري، أي من خلال الناحية الاقتصادية للمبنى وهيكله ومدى كفاءة استخدامه للطاقة. ومن ثم توظيف كل هذه المعايير للحصول على نموذج رقمي ثلاثي الأبعاد للبنية الجديدة المقترحة من خلال الاستعمال المكثف لـ CNC(Computer Numerical Control التحكم الرقمي بالكمبيوتر)، و إنشاء النماذج الأولية المتلاحقة والقطع الحديث للنماذج بالليزر.
مؤسسة elBulli أصبحت ما يشبه سينما للعصف الذهني brainstorming ومكان للعثور على الأفكار والخبرات. فحسب الاحصائيات إن كل يورو يتم إنفاقه على تحديث المنظومات القديمة تساعد على توفير طاقة بقيمة 6 €.
طلب فيران أدريا تخصيص فراغ خاص لجلسات العصف الذهني ولتبادل وجمع الأفكار والخبرات. وعند إنشائه تمّت مراعاة الطبيعة المحيطة والحفاظ عليها، والمدخل يجب أن يكون مطموراً بشكل جزئي. ساعد الشكل على تحقيق محاكاة لأعماق البحار، وتم استخدام التشكيلات المرجانية لخلق فتحات تحقق الإطلالة وتسمح بدخول الإضاءة الطبيعية للفراغ.
مع تحوُّل elBulli إلى بيئة ومؤسسة داعمة للأفكار المبتكرة، سيستمر فيران أدريا، وبنفس المستوى العالي من الالتزام، في التأكيد على التفكير كطريقة للتدريس كما فعل هو من خلال إبداعاته في مطبخ elBulli.
جامعاً الهندسة المعمارية للمكان وقدرته على تحرير عقله، خلق أدريا بيئة تعزّز القدرة الإبداعية عبر مفهومه "الحرية تعطي الإبداع".
لا يقتصر الإبداع على جوانب الفن والعمارة بل يتعداها ليشمل كافة جوانب وتفاصيل الحياة فأغلب العناصر والتفاصيل المحيطة بنا تتكون من إيقاع متواصل وفلسفة خاصة تشابه بعضها البعض.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر:
هنا