دور التقليد والابتكار في تكوين المدينة
العمارة والتشييد >>>> التصميم العمراني وتخطيط المدن
إنّ المدينة والحضارة من أهم الظواهر التي رافقت التاريخ البشري. فالمدينة هي عنصر رئيسي لاحتواء وتصدير الحضارة. ليس خفياً على أحد أن الإنسان يختلف عن سائر المخلوقات الأخرى بقدرته على التواصل، التعلم وتطوير واقعه وبيئته التي يعيش ضمنها بشكل يمكنه معه من صنع التاريخ. وبما أن لكل إنسان حياة فريدة ومميزة خاصة به، نستطيع القول بأن لكل إنسان ازدواجية تتلخص في: تاريخه الخاص به بما تعلمه في حياته وتاريخه الجمعي المشترك ضمن الحضارة التي عاش فيها.
إنّ هذين الاتجاهين، التعليمي والحضاري، يعملان معاً على صقل شخصية الإنسان وتحديد أفعاله، قيمه وطريقته الخاصة في تحقيق أهدافه. هذه الاتجاهات لا تقتصر في انعكاساتها على الإنسان ككائن فقط بل يمكن رؤية فلسفتها في البناء العمراني للمدن. فالمدن ليست سوى أرشيف متراكم من لأفكار والإنجازات الإنسانية في فترات زمنية محددة ومتعاقبة، والعمارة بحد ذاتها تعتبر مثالاً حياً شاهداً على المعرفة المستقاة من تجارب الإنسان خلال هذه الحقبات الزمنية.
بناءً على كل ما سبق نستنتج أن العمارة عبارة عن أداة نستطيع من خلالها معرفة وفهم قصة حفنة من الناس، وتجاربهم التي قاموا بها عبر عيشهم ضمن حضارة معينة بثقافة معينة خلال فترة زمنية محددة. فهي تساعدنا على رؤية قصة تطور الجنس البشري في كافة مراحله وتشعباته الفكرية والحسية والثقافية وتبرهن لنا مدى انعكاس قيمه وأفكاره كمجتمع واحد على الإرث الحضاري الإنساني المشترك.
المدينة، كما ذُكر سابقاً، عبارة عن محصلة تراكم الأفعال البشرية عبر السنين، فهي مجموعة من الظواهر الاجتماعية المعقدة ومتنوعة الفئات، تولدت بشكل عفوي عبر عملها من بعضها البعض. يمكن تعريف هذه الظواهر كمنظمات ناتجة عن أفعال وإنجازات إنسانية شخصية وجماعية، مهمّتُها إرضاء حاجة الأفراد بتأمين قاعدة أساسية عامة تهدف إلى خدمة الأفراد. والحقيقة إن معظم هذه الظواهر الاجتماعية (كاللغة، العملة .... الخ) هي عبارة عن أساسات بدائية تطورت بمرور الزمن وعبر الاحتياجات الاجتماعية المتلاحقة إلى أساسات حضارية، يتم عن طريقها مساعدة الإنسان في تحقيق الإنجازات والنجاحات. وانطلاقاً مما ذُكر نستطيع القول إن العناصر الرئيسية للمنظمات والمؤسسات الاجتماعية هي التي حددت بمرور الزمن وعبر تجميع كل هذه التجارب، الأعراف والتقاليد المتّبعة والتي تعتبر القاعدة الرئيسة المشكِّلة لأُسس الحياة في أي مجتمع.
لكننا نعرف أنَّ المجتمعات البشرية لا تتوقف عن التطور بمرور الزمن، وأنَّ التقليد الأعمى للأعراف الموروثة قد يعيق عملية التقدم بشكل ملحوظ، لا بل أنَّهُ قد يسبّبُ شللها التام. لهذا السبب كان من الضروري إيجاد عناصر رئيسية جديدة تقوم بخلق ثقافة متغيّرة باستمرار كجزء أساسي من الحركة الثورية الإبداعية للمدن بعيداً عن الثقافات الموروثة. أحد هذه العناصر هو تقبُّل الأفكار الجديدة غير المألوفة الّتي يطرحها الأفراد، والسماح لهم بتطبيقها. فهذه الفلسفة تعود عليهم في كافة الأحوال بالنجاح. قد تتساءلون كيف ذلك والإجابة بسيطة؛ في حالة فشل التجارب والنظريات الجديدة، يتم تأكيد أهمية الطرق التقليدية الموروثة، أما نجاح هذه الأفكار الثورية سيؤدي إلى اكتشافاتٍ جديدة تفتح لهذا المجتمع أبواباً واحتمالاتٍ لم يكن أحدٌ قادراً قط على تخيُّلها.
المدينة عبارة عن سيناريو معقد، مليء بالاحتمالات والإمكانيات. فمن جهة يتغير المجتمع باستمرار، وتظهر عناصر جديدة ومتطلبات واحتياجات جديدة تؤدّي إلى تغيير الأعراف والعادات السائدة. ومن جهة أخرى تتجسّد كافة المعارف والتجارب في المباني والفضاءات المحيطة بها، مشكِّلةً بذلك ذاكرة المدينة.
إن التمازج بين التقاليد الموروثة والنزعات الإبداعات المتكيفة مع تغيرات ومتطلبات المجتمع يمكن ملاحظته بشكل واضح في تطوُّر المستوطنات الحضرية التوسعية للمدن أثناء فترة الإمبراطورية الرومانية. فالمدن المنشأة من قبل الرومان كانت تتميز ببنيتها الشبكية المتعامدة، بحيث تتكون من طريقين رئيسيين يتعامدان مع بعضهما البعض ويلتقيان في نقطة مركزية تشكّل المركز المدني والتجاري للمدينة والذي يدعى الساحة العامة-الفورُم Forum. وبشكل عام اعتمدت معظم هذه المستوطنات على بنية عامة تحقّق الاحتياجات الإدارية، الدينية والثقافية. بعد انهيار الإمبراطورية تغيرت -أو حتّى اختفت- القوى، الموجّهات، العادات والأعراف التي ساهمت في بناء هذه البيئة العمرانية الرومانية. وأصبح من السهل التعرُّف على التعديلات العمرانية الجديدة في المجتمعات والمدن اللاحقة.
Image: Via Kostof, 1993, p. 49
توضح الصورة في الوسط، مدينة رومانية نموذجية خلال العهد الامبراطوري. وعلى الجانبين بعض التطورات العمرانية في عصور لاحقة. فعلى اليسار، في القسم الشرقي من الإمبراطورية الزائلة، نستطيع تمييز النمط الإسلامي العمراني. حيث تم استبدال الشبكة الواضحة المتعامدة والفضاءات العمرانية الواضحة بشبكة من الشوارع الضيقة والأزقة التي حدّدت وحدات وتجمُّعات سكنية كبلوكات ضخمة موزَّعة وفق تصنيفات عرقية وقبلية. أما على اليمين فيمكن رؤية النموذج التقليدي للمدن الإقطاعية الإيطالية، التي تعتمد على تجميع بلوكات سكنية متعددة لتكوين مجمعات تقليدية محصَّنة.
كما تقدم اليونان القديمة العديد من الأمثلة الهامة عن التطور التلقائي العفوي للمدن ومحتواها الثقافي الذي يحدد ملامح الهندسة المعمارية الإغريقية. عبر امتداد تاريخهم الطويل، شهد الإغريق تغيُّراتٍ كبرى في بنية مدنهم التي تطلبت حلولاً جديدة لفضاءاتها العمرانية، بالإضافة إلى إعادة استعمال وتوظيف الهياكل والبنيات القائمة. خلال العصر البرونزي ساد النظام الملكي في اليونان، الذي كان يعتمد في محوره على شخصية الملك، الذي ركّز بدوره على أهمية ثلاثة عناصر ودورهم المحوري في المجتمع وهم المحاربين، الكهنة والمسؤولون الإداريون. كان حصن قصر الملك هو مركز الحياة الحضرية في المدن الإغريقية الذي يقع عموماً في مواقع استراتيجية يسهل الدفاع عنها تدعى بـ: الأكروبول. بعد تفكُّك الحكم الملكي سادت زمنية تُعرَف باسم العصور الإغريقية المظلمة، ظهرت بعدها ال"بوليس" (دولة المدينة) الإغريقية التي ساد خلالها نوعٌ جديدٌ من الحكم، الجمهورية. في هذا النظام الجديد، أصبحت السلطة جماعية، عامة ومفتوحة لكل الناس، وجرت ممارستها في فضاء محدد جديد، ساحة تُدعى أغورا Agora. هذه القفزة النوعية للسطلة الحاكمة عكست بشكل واضح ملامح النظام الجديد، وسُجِّل -لأول مرة في التاريخ- ظهور نوع جديد من الإنسان، المواطن. فكان المواطنون متساوون في حقوقهم ووجباتهم، وبالتالي في احترامهم وإمكانيتهم في المشاركة بفعالية في اتخاذ القرارات في الأغورا.
وهكذا، فإنَّ التشكُّل الحضري العضوي للـ بوليس الإغريقية كان شاهداً على النمو البطيء العفوي للمدينة. حيث أجريت تعديلات متتالية على كل مساحة حملت تقاليد، أساطير، ذكريات أو تراثاً مادياً كان أم معنوياً. هذا يعني أنه من الممكن اعتبار الأكروبوليس مثالاً عن التحوٌّل الناتج عن ضغط كبير ضد القوى المحافظة التي كانت مهيمنة في المجتمع الإغريقي. في الواقع، مع مرور الوقت ومع تغيير نظام الحكم، خسر الأكروبوليس الوظائف السياسية التي انتقلت إلى الأغورا، وتم الحفاظ على وظائفه الدينية العريقة فقط، بوصفه حلقة وصل مفصلية بين الزمن الحالي والأزمنة القديمة.
وطبعاً كانت الهندسة المعمارية المميزة للأكروبوليس وللأغورا شاهدة على لحظات ومهمات كل منهما في المجتمع الإغريقي، أي أن بنيتهم المادية وفلسفة تصميمهم كانت جزءاً لا يتجزأ من الخصائص الثقافية والتاريخية التي ميزت هذه الفترات. ولعل أفضل مثال على ذلك هو البارثينون.
ومن منّا لم يسمع بالبارثينون الذي صُمِّم ليكون مسكن للآلهة؟ لكن البارثينون لم يمثّل دينيّة المجتمع الإغريقي فقط، بل أيضاً شعورهم بالتكاتف الاجتماعي البنّاء بين بعضهم البعض. اعتقد الشعب الإغريقي أنَّ الكون يتكون من مجموعة من القوانين المثالية التي خلقت نظام هذا الكون. فكانت مهمة الفلسفة والفن بناءً على هذا اكتشاف هذه القوانين والتعبير عنها بأسس، معادلات وإبداعات تنتج العدل والجمال، الذَين كانا يُعتبران وجهان لعملةٍ واحدة، فكان البارثينون المثال الحي الذي يجمع هذه المعتقدات والمبادئ. لقد تم إغلاق معبد البارثينون تماماً من الداخل، لذلك كانت الشعائر الدينية تُعقَد خارجاً حول المعبد. أما واجهات المعبد فقد احتوت على الأعمدة المفصَّلة، الدعامات المستقيمة، النقوش وغيرها من العناصر المميزة للعمارة الإغريقية والّتي كانت تُصمَّم وفقاً لنظريات دقيقة في النّسب، التناسب والهندسة، التي كان من أهم أهدافها الحفاظ على المحاذاة الدقيقة لاستقامة المبنى بصرياً. كانت النسب الضخمة التي صُمِّمت على أساسها المباني الإغريقية المهمة تشكل تحدياً للمعماري وذلك بسبب التشوُّه البصري. الذي هو رؤية العناصر المستقيمة محدبة عند النظر إليها بالعين المجردة بسبب ضخامة نسب المبنى، مسافة النظر وطبيعة العين البشرية. فصُمِّمت الأعمدة (التي بدت مستقيمة بالشكل سواءً عمودياً أو أفقياً) بالحقيقة على شكل أسطح منحنية ومائلة وفق نسب وزوايا محددة، مهمتُها تصحيح هذا التشوُّه البصري الناتج عن الانحراف المنظوري.
على الرغم من المورث الإغريقي الحضاري والعمراني الكبير في مختلف مجالات الهندسة، الفلسفة والفكر لم ينجح المهندسون المعماريون المعاصرون في تطويره بشكل يتناسب مع قيم ومتطلبات عصرنا الراهن. حيث يعاني المعماريون نقصاً واضحاً في الحالات الابتكارية والإبداعية وخاصةً عندما يقوم بالبحث في الماضي عن الأمثلة التي تناسب وظيفياً أو رمزياً مهماتهم ومتطلبات مشاريعهم فيعمدون إلى نسخ هذه المباني والأفكار بحذافيرها عوضاً عن الاستفادة من فلسفتها ومضمونها أي إيجاد حل خلاق للمشاكل والتحديات التي تواجههم. ولهذا السبب توجد حالياً نسخ كثيرة من المعابد اليونانية في مناطق مختلفة من العالم، لا يتحلى معظمها بأية قيمة معمارية، كما لا يمكن اعتبارها انعكاساً عن واقع المجتمعات المعاصرة التي ينتمون إليها. وهكذا تصبح العمارة المعاصرة التي من المفترض أن تمثل الأفكار والفلسفة الحالية، وتعكس الحلول والتكنولوجيا الجديدة العصرية، مجرد نسخة طبق الأصل من عصر سابق لا علاقة له بالواقع الحالي.
فنستطيع القول كنتيجة: لكي تتمكن العمارة في المساعدة على فهم فترة زمنية معينة من تاريخ الشعوب وثقافاتها، فإنها يجب أن تُصمَّم بناءً على حاجات ومفاهيم العمارة والمجتمع في ذلك الوقت نفسه الذي يعيش ضمنه الشعب وليس اعتماداً على تقليدٍ أعمى من فتراتٍ انتهت. هذه الفلسفة انتشرت فقط على مستوى محدود من العالم ولكن في حال العمل على توضيح أهميتها والمساهمة في نشرها ستظهر نتائج إيجابية جداً تساعد على إنتاج أفكارٍ قويةٍ وفلسفاتٍ معينة لها آثارٌ عميقةٌ في هندسة المدن، فضاءاتها العمرانية وهندستها المعمارية.
بالطبع يتطلب واقع كل مدينة تقريباً في هذا العالم إيجادَ حلولٍ معمارية وعمرانية للفضاءات والمباني التاريخية التي تروي قصة هذه المدينة في فترة من الزمان. ومن هذا فإنه من المهم جداً تقبُّل حقيقة أن العقل البشري لديه حدود وقيود قلّ ما تسمح بإعادة إحياء مباني ووظائف خلت بنفس الطريقة تماماً، فهذه الفلسفة والتصميم ناسبت الآلاف من الناس في تأمين متطلّبات حياتهم ضمن تلك العصور، وأنه علينا الآن أن نفهم رمزية المبنى وتاريخه ومحاولة حل مشاكل الأبنية والفراغات وفق خطوات تتميز بالإبداع والتجديد وعكس فلسفتنا المعاصرة مع الحفاظ على الروح والإرث التاريخي الذي وصلنا. لأن حلولنا هذه ستصبح بدورها أرشيفاً مادياً حضارياً، سيكون جزءاً من حياة الناس على مدى عدة أجيالٍ قادمة، فهذه العملية هي عبارة عن اتصال مستمر للأجيال يؤكد ويوضح فلسفتنا ومقومات الجمال وأفكار ومنطلقات الحلول الوظيفية والتكنولوجية، والقيم الاجتماعية السائدة في مجتمعاتنا الراهنة.
بالطبع لا يسعى كافة المعماريون إلى إنشاء مبنى تاريخي يظل منارة عن مدى عدة قرون قادمة، فيركز بهذه الحالة الغالبية العظمى من المهندسين المعماريين على تصميم مباني لها أهمية في الوقت المعاصر، حيث تقدم هذه المباني حلولاً وظيفية خدمية للناس الذين يستخدمونها، وتتحقق فيها كل التطلُّعات الوظيفية، الجمالية والتكنولوجية فيما سترتبط بكافة مجالات الحياة اليومية من إسكان، مجمعات خدمية، ترفيهية، دينية ..... الخ. فتكون هذه المباني والحلول المعمارية جميلة ووظيفية في الوقت الذي وُجدت فيه.
------------------------------------------------
وفي النهاية لا يمكننا سوى القول أن عملية التصميم المعماري هي عملية معقدة تتشارك فيها قيم ومبادئ تحملها ذاكرة مجتمعاتنا مع متطلبات ومحددات تفرضه علينا حياتنا الراهنة. ومهمتنا كمعماريين هي إيجاد إيقاع صحي بشكل يسمح لنا عن طريق تصاميمنا بنقل صورة صافية حقيقية عن ماهيتنا وفلسفتنا للأجيال القادمة، فيصبح بذلك إبداعنا الحالي تقليداً في حياة مجتمعاتنا ومدننا المستقبلية.
المصدر:
هنا