الدكتور «واتسون» من شركة IBM سيعاينك يوماً ما!
المعلوماتية >>>> عام
برنامج "Jeopardy" هو برنامج مسابقات تلفزيوني شهير يقوم فيه المذيع بتحدّي المتسابقين عن طريق طرحه لأجوبة، ويتوجّبُ على المتسابقين اقتراحُ أسئلةٍ لهذه الأجوبة. وهي مهمة تتطلبُ إدراكاً و قدراتٍ تحليليةً معقدةً في بعض الأحيان.
وصف خبراء الذكاء الصنعي انتصار واتسون في "Jeopardy" بأنه أكثر أهمية حتى من الانتصار التاريخي الشهير لحاسوب IBM الفائق (Deep Blue) على بطل العالم في الشطرنج «غاري كاسباروف» في عام 1997.
بالنسبة للمهتمّين بالذكاء الصنعي، يُـعدُّ «واتسون» إنجازاً في مجالاتِ تحليل اللغات والاستنتاج الآلي (معالجة المعارف المكتسبة سابقا للإجابة على سؤال جديد). لقد كان «واتسون» بالنسبة لـ«ميهتا»- وهو طبيب وبروفيسور في عيادة «كليفلاند» المشهورة عالمياً- تساؤلاً بحدّ ذاته: ماذا يمكنُ أن يحدثَ إذا تم توجيه قدرات واتسون باتجاه الطب؟
لم يكن «ميهتا» أولَ شخصٍ في المجال الطبي يحلمُ بأن يقومَ الحاسوب بمساعدته، فهنالك تاريخٌ حافلٌ لاستخدامِ تقنيات الذكاء الصنعي في الطب، ابتداءً بـ"Interest-I"، وهو حاسوبٌ من فترة السبعينيات مهمته تخزين المعارف والخبرات الخاصة بخبير الطب الداخلي "Jack Myers"، وهو بدوره أدى إلى ظهور عدة برامج طبية مثل برنامج «المرجع الطبي السريع» من جامعة «بيتسبورغ» في الثمانينيات، إلى البرامج المعاصرة مثل "Isabel" و"DXplain" والتي باستطاعتها التفوق على الأطباء البشرّين في تشخيص الأعراض. وحتى في حالات البرمجيات البسيطة نسبياً كمحركِ البحث الخاصِّ بالأدبيّات الطبيّة "PubMed"، وأنظمة تنبيه المرضى المؤتمتة، والتي تُظهرُ جميعها نوعاً من الذكاء.
قد تكونُ البرامج السابقة قوية، لكنها ليست دائماً بالذكاء الذي نريده، لكن «واتسون» بقدرته على معالجة اللغات الطبيعية والاستدلال والتعلم من الأخطاء استطاع تجسيدَ شيء أكثر تعقيداً. كما أنَّ «واتسون» وصل في وقت مناسب، فمجالُ الرعاية الصحية وخاصة في الولايات المتحدة كان يشهدُ إصلاحاتٍ كبيرةً في المجال الرقمي.
تتوافرُ حالياً نتائجُ الأبحاثِ السريرية وقواعدُ بياناتِ الأبحاث و مقالاتُ المنشورات الدورية بشكلٍ مقروءٍ من قِبل الآلة، مما يُسهّلُ تلقينَ هذه المعلومات للحاسوب. كما أن التفويض الفدرالي الخاص بذلك جعل السجلاتِ الطبيةَ الإلكترونيةَ متاحةً للجميع حول العالم تقريباً. ولذلك فإن البرمجيات الآن تتكاملُ مع العلوم الطبية أكثرَ من أي وقت مضى، وهنالك توافق بأن تحسينَ العناية الطبية وجعلها أكثر فعالية وأقل تكلفة سيتطلب برمجياتٍ وتقنيات محسّنة و جديدة.
لذلك ليس من المستغرب أنه و بعد وقت قصير من فوز «واتسون» في برنامج "Jeopardy"، قامت IBM بإعلان أنها سوف تجعل «واتسون» متاحاً للتطبيقات الطبيّة، وقد ضجّت الصحافة المتخصصة بالتكنولوجيا بأخبار «الدكتور واتسون».
لكن بعد أربع سنوات من هذا الحدث، لم تحدث الثورة الطبية التي كانت متوقعة!
"إنهم يحرزون بعض التقدم!" كما صرّح الطبيب «روبيرت واشتر» من جامعة كاليفورنيا، "لكن من ناحية التقنيات التي تحدث تغييراً نوعياً في العالم فلا أظن أن واتسون يقوم بذلك في هذه الفترة".
أين يكمن التأخير؟ في عقولنا غالباً، فتقنياتُ الذكاء الصنعي الاستثنائية التي تطوّرها IBM قد نضجت بشكل قويّ، واعتقادنا بأن الأشياء تتمُّ ببطءٍ سببُه توقعاتنا اللامنطقية لما يجب أن يحدث في عالم سريع الحركة ومتغير بشدّة.
يمثّلُ تطوير العناية الصحيّة تحدياً عميقاً، و«التحاق واتسون بكلية الطب»، كما وصفت الكثير من العناوين الرئيسية، سيستغرق وقتاً.
على الرغم من أن مشاركة «واتسون» في برنامج "Jeopardy" كانت مثيرةً للإعجاب، إلا أنه من الناحية الطبيّة وجود إنسان آلي ليس مفيداً بشكل كبير، فنسخة «واتسون» المتوافرة قد تم تصميمُها للمشاركة في هذه المسابقة خصيصاً، فلا يمكن لـ«واتسون» لعب المنوبولي مثلاً، ناهيك عن تقديمِ نصائح مفيدة لرجل بعمر الـ68 عاماً مصاب بالسكري وتسرع القلب.
"واتسون، بفرض أني أعطيتك ملفي الطبي الكامل، والذي يتكون من مئات الصفحات، فهل يمكنك أن تعرف مما أعاني؟
هذا سؤالٌ مطروح، لكنه ليس سؤالاً مناسباً لكي يجيب عليه «واتسون» "، كما يقول «مايك باربوراك» مهندسُ البرمجيات الخاص بـ«واتسون».
من المطلوبِ تطويعُ قدراتِ «واتسون» الضخمة لخدمة الطب، وتحديداً لتخدم تخصصاتٍ ومهاماً محددة. فـ«واتسون» ليس برنامجاً مفرداً، بل هو عبارة عن "مجموعة من تقنيات الحوسبة المعرفية التي تم دمجها وتمثيلها بطرق مختلفة من أجل واحد من الحلول"، كما سقول «إريك براون» مدير الأبحاث المتعلقة بـ«واتسون».
يوجد حالياً عددٌ كبير من «أشباه واتسون» لخدمة الطب والتي يمكنُ إيجادها في العديد من الشركات الطبية التي بدأت العملَ مع IBM منذ ثلاث سنوات لتطوير نسختها الخاصة من واتسون الموجهة للعناية الطبيّة. و بعد سنتين، تقلص حجم العتاد اللازم لـ«واتسون» من عتادٍ بحجم غرفة إلى مقاس صغير بما فيه الكفاية ليكون بالحجم الذي يشغله مخدّم عادي، ووقّعت مجموعة أخرى من الشركات أيضاً عقودًا مع شركة IBM للتعاون في هذا المجال، والتي ستستخدم «واتسون» في تخصيص علاجات لأمراضٍ محددة، وفي تحليلِ مئات الآلاف من ملفات المرضى و بناءِ نماذجَ علاجٍ بحيث يتمكن الاطباء من ملاحظة عدد الحالات المتشابهة التي تمت معالجتها.
تدريبُ «واتسون» عملية شاقة، وهو عملٌ يتطلّب تعاونَ علماء الحاسوب والأطباء للعمل على تشكيلِ قاعدة مراجعَ طبية، وإدخالِ الحالات قيد الدراسة، وطرحِ آلاف الأسئلة. ويقوم البرنامج بتعديلِ الأخطاء تلقائياً عند ارتكابه لها، وهذا ما يعرف بـ«تعلم الآلة» على الرغم من أن واتسون لا يتعلم بمفرده، إذ يقومُ الباحثون بتقييمِ الأجوبة و التعديلِ اليدوي لخوارزميات «واتسون» لتوليد مخرجاتٍ أفضل.
هناك فجوة ما بين أن يكون الطبُّ شيئاً يمكن استقراؤهُ بأسلوب مباشر من كتب الطب والمنشورات الطبية والمبادئ التوجيهية السريرية، وبين أن يكون شيئاً أكثرَ تعقيداً والذي يتمثل في معرفة كيف يمكن للطبيب الجيّد أن يفكّر. ولكن إلى حدٍّ ما فإن عملياتِ التفكير هذه (والتي تتضمّنُ تقييمَ الأدلة، وغربلةَ الآلاف من البيانات المهمة واختيار عدد قليل منها، ومراعاة وجود ارتياب في البيانات) قابلة لتطبيقها والاستفادة منها في مجال تعلم الآلة، ولا يخلو الأمر أيضاً من بعض التشذيب للخوارزميات والنتائج من قبل المطورين للحصول على نتائج مرضية.
لقد تمَّ توجيهُ التوقعات لمنحى آخر، إذ تبدو قدراتُ معالجة النصوص الخاصة بـ«واتسون» (قاعدة بيانات "Jeopardy" التي تحتوي على ما يقارب 200 مليون صفحة نصية) وكأنها أداةً مثالية للتعامل مع الأدبيات الطبية، والتي يتضاعف حجمها كلَّ خمسِ سنوات تقريباً. لكنَّ وجودَ كومةٍ كبيرة من المعلومات ليس دائماً هو الأفضل. فمثلاً، عند القيام بمحاولة نمذجة قرارات كبار أخصائيِّي سرطان الرئة في مركز «ميموريال سلون كيتيرينج»، فإنه ليس هنالك مقالات أو مبادئ توجيهية سريرية للأجوبة الصحيحة، إذ أن يتمُّ الوصول إليها عبر مراقبة الطبيب وهو يعمل. و حتى عند توافر البيانات المطلوبة، فهذه البيانات ستكون مفيدة بشكل أكبر لو تم تقديمها لـ«واتسون» على شكلِ مجموعات أصغر من البيانات المنتقاة من قِبل خبراء.
مشكلة أخرى هي نوعية البيانات، فمثلاً تطبيق "WatsonPaths"، الذي يقوم «ميهتا» بتطويره في عيادة «كليفلاند»، هو أقرب ما يكون من Dr.Watson المرتقب حتى الآن. ولكنه لايستطيع العمل إلا إذا تمكنت تقنيات الذكاء الصنعي من فهم معنى ملفات المرضى بشكل تامّ، فالملفات الطبية الإلكترونية هي عبارة عن مجموعة غامضة من البيانات المليئة بالأخطاء والتي يتم تصميمُها وهيكلتُها بالأصل من قبل إدارة المشفى بدلاً من العاملين في مجال العناية الطبية.
وبذلك يكونُ مشروعُ الطبيب «ميهتا» الثاني هو مساعد لـ«واتسن» في معالجة السجلات الطبية الإلكترونية، بحيث يتم تدريبُ الكومبيوتر لكي يستخلص من السجلات أشياء يستطيع الأطباء وبرنامج «واتسون» الرئيسي أن يستخدمها بشكل فعلي، حيث يقول: "إنه تحدٍّ كبير، لكننا لم نصل لتلك المرحلة حتى الآن".
وجودُ مشاكل فيما يخصُّ السجلات الرقمية لا ينفي حقيقة أنّ النسخ المختلفة والمعتمدة على «واتسون» قد تم استخدامها في شتى مجالات الرعاية الطبية وفي طيفٍ واسع من التطبيقات ابتداءً من المهام المعتمدة كلياً على الآلة وانتهاءً بالمهامِ المعتمدة كلياً على الإنسان. لكن «واتسون» لا يمكنه أن يقوم بالتعويض عن النقص في الأطباء البشريين أو أن يستعيد العلاقة التي تربط بين الطبيب والمريض والتي فقدت معناها في عصر زيارات العيادة السريعة التي لا تتجاوز مدتها الخمس دقائق.
كما أنَّ «واتسون» لا يمكنه معالجة كل هذه المشاكل، لكن ربما يمكنه أن يقومَ بتحسينِ بعضٍ منها، إذ ستجعلُ معالجة السجلات الطبية بشكل أفضل المعاينةَ عند الطبيب تستغرق بضع دقائق إضافية عوضاً عن الطلب من المريض العودة لمعاينات إضافية بسبب غموض/نقص في البيانات أو في تحليلها! ومساعدة الأطباء في تحليل بيانات المستشفيات والأبحاث يمكنه جعل العمل أسهل على الأطباء ويمكّنهم من ممارسة علاجات أكثر فعالية وبشكل أكثر اعتماداً على الأدلة الموثوقة.
شركةُ IBM هي واحدة من الشركات والمؤسسات العاملة في مجال الذكاء الصنعي الطبي. وبالتأكيد أن ذكرَ «واتسون» بشكل مكثف أحياناً يثير الغضب في هذه الأوساط والذي قد نعزوه لروح المنافسة، ولكن أيضاً لحقيقة أن الصخب المثار حول «واتسون» قد حجب إنجازات الآخرين!
فعلى سبيل المثال، تقنية الذكاء الصنعي التي طوّرها مستشفى «ماساتشوستس» العام والمدعوّة بـ"QPID) Queriable Patient Inference Dossier)" أي ملف المريض الاستدلالي القابل للاستعلام، والذي يقوم بتحليل السجلات الطبية و قد تم استخدامه من قبل أكثر من 3.5 مليون مريضٍ فقط خلال السنة الماضية. و برامج التشخيص مثل "DXplain" و"Isabel"، والتي تحظى بدعم الجمعية الطبيّة الأميركية. والشركات الناشئة مثل "Enlitic" التي تعمل على برامج التشخيص الخاصة بها. كما قامت جمعية علم الأورام السريري الأميركية ببناءِ برنامجِها الخاص المستخدِم للبيانات الضخمة "CancerLinQ" كنموذجٍ لما يسميه معهد الطب بـ«النظام الطبّي القابل للتعلّم».
وفي غضون ذلك، تقوم IBM بتحسيناتها الخاصة. بالإضافة للتحسينات في تقنيات التعلّم، أضاف مبرمجو «واتسون» مؤخراً التعرف على الكلام و تحليل الأنماط البصريّة لمجموعة أدواتهم. إذ يمكنُ للنسخ الجديدة القادمة أن تكون مثل "HAL 9000" من كتب الخيال العلمي، قادرةً على أن ترى وتسمع!
وفي النهاية، كيف سيؤدي ما سبق لحدوث طفرةٍ في هذا المجال؟ متى سيتمكنُ الذكاء الصنعي من تغيير منحى الطب؟ أو على الأقل المساعدة في تطويره بطريقة كبيرة؟ الجواب هو أن الوقتَ ما زال مبكراً لمعرفة ذلك، إذ أن تقنياتِ الذكاء الصنعي هي الآن مماثلة لما كانت عليه الحواسيب الشخصية في سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت IBM قد بدأت للتوِّ في العمل على الحواسيب المكتبية، وعندما كان شابٌّ يُدعى «بيل جيتس» يبرمجُ باستخدامِ لغة "Altair BASIC"، وعندما كان هناك شابّان اسمهما «ستيف» (مؤسسا شركة آبل) يحاولان اختراعَ شيء ما في كراج صغير في كاليفورنيا! تطبيقات الذكاء الصنعي في الرعاية الصحيّة ستستغرق سنوات عديدة لكي تُثمر، لكنها بالتأكيد ستنتجُ أشياءَ عظيمة!
----------------------------
حاشية المحتوى:
-التفويض الفدرالي: هو قانون يقرّ من قبل الحكومة الأمريكية الاتحادية ويجب على كل الولايات العمل به.
----------------------------
المصدر:
هنا