المستحضرات ما بين التجميلية والعلاجية في العصور الوسطى
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
ما من مؤلفٍ ألّف كتاباً في الطب في العصور الوسطى ولم يطّلع على كتابات الطبيب اليوناني الشهير غالِن. كانت تعاليم غالن هي حجر الأساس الذهبي في الطب حتى القرن السادس عشر، وظلّت بعض علاجاته مستخدمةً حتى القرن التاسع عشر. وقد كان لغالن وجهة نظر صارمة فيما يتعلق بالتفريق بين استخدام مستحضرات التجميل لمجرد تحسين المظهر وبين استخدامها لأجل صحة المريض.
وقد تذمّر في كتاباته من الخلط بين العلاجات الطبية ومستحضرات التجميل بقوله: "إن الهدف من إجراءات التجميل هو تعزيز وزيادة الجمال، أما الهدف من التزيين الطبي فهو المحافظة على مظهر الجسم طبيعياً وهو ما يُؤدي بشكل تلقائي إلى المظهر الجميل. فالرأس المُصاب بداء الثعلبة وقد تساقط شعره قبيح الشكل، وكذلك تساقط شعر الرموش والحاجبين، وتلك الشعيرات لا تجعل أعضاء الجسم ذات مظهر جميل فحسب، بل تساهم بشكل أكبر في صحة هذه الأعضاء. لكن جعلَ الوجه أفتحَ لوناً أو تجعيدَ الشعر أو إطالته لا تندرج تحت فن العلاج والشفاء بل تحت مسمى التجميل".
كان غالن معنياً بالاختلافات بين الخدمات المقدمة للصحة والتزيين، والخدمات المقدمة فقط لتجميل المظهر/ مستحضرات التجميل. لم يكن للتزيين في العصور الوسطى نفس دلالاته في هذه الأيام، فبالنسبة لأطباء العصور الوسطى كانت كلمة تزيين تعني "الرعاية" أو "العناية"، إذ كان التزيين يستخدم لعلاج الحالات الشاذة عن الطبيعة مثل أمراض الجذام والثعلبة التي لا تجعل المصاب قبيحاً فحسب بل تضر بصحته في المقام الأول. وبالنسبة لغالن فهنالك اختلافٌ كبيرٌ بين شخصٍ يعاني من مظهرٍ مزعجٍ وصحةٍ سيئةٍ، وبين شخصٍ آخرَ يسعى لاستخدام الطب فقط ليجعل مظهره أكثر جاذبية.
رغم ذلك أقرّ غالن أنه في بعض الحالات لا يستطيع الطبيب رفض تطويع الطب لغرض التجميل، كما عندما كان الطبيب يُؤمر بمعالجة شخصٍ من العائلة الملكية. وأورد غالن في كتاباته بعض وصفات تلوين الشعر ومنع الصلع التي اُستعملت للحاشية الملكية، كما ذكر أسماء أطباء آخرين عملوا لدى الأباطرة والملوك مثل الطبيب الروماني كرايتون، وذلك ليشرح سبب ذكر تلك الوصفات في أعماله.
عند ذكر أطباء ذلك الزمن ذوي المكانة المرموقة لا يسعنا ألّا نذكر ابن سينا، الطبيب الفارسي الذي ألّف أكثر من 450 عملاً في أساسيات الطب. كما كتب في الكيمياء والفلك والرياضيات والفلسفة مؤلفاتٍ تدلّ على سعة علمه، إذ صار طبيباً وعمره 18 عاماً، وسمعته كطبيبٍ جعلت منه أحد أشهر الشخصيات التاريخية.
وكما هو الحال مع غالن استمر الأطباء في استخدام تجارب ابن سينا ووصفاته في الطب حتى القرن السابع عشر. لكنه اختلف مع غالن فلم يُعنى بالفصل بين التجميل والتزيين العلاجي ولم يؤثر ذلك على عمله في كتابه "قانون الطب". وقد تبع مؤلفو كتب الطب في العصور الوسطى توجيهات ابن سينا بمزج الأدوية ومستحضرات التجميل معاً حتى القرن الرابع عشر.
الشعر والماكياج للرجال:
لم تكن مستحضرات التجميل حكراً على النساء في العصور الوسطى بل كان الرجال مستهلكين رئيسيين كما النساء. فقد استخدم الرجال مستحضرات التجميل لإخفاء معالم التقدم بالعمر مثل علاجات الصلع، وصبغوا شعرهم بالأبيض. ويقول ديمتري عن ذلك: "كان الناس الذين يصبغون شعرهم لأسباب جمالية على استعداد لإنفاق المال دائماً لأجل تحسين مظهرهم" إلا أن توجه الرجال إلى تحسين المظهر قوبل بالازدراء. وهذا ما حكته قصة "موتٌ بمستحضرات التجميل" والتي تروي قصة أماديوس السابع كونت منطقة سافوي، عندما استخدم عام 1391 مرهماً لتكثيف شعره لأنه بدأ يصاب بالصلع، ومات بعد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ بعمر 31 عاماً فاُتهم طبيبه بتسميمه بناءً على طلب والدته. وقد تكون القصة مُبتدعة لمجرد السخرية من الرجال مُستخدمي المستحضرات، والذين انحصر اهتمامهم تقريباً بالمستحضرات الخاصة بوقف تساقط الشعر وصبغ الشعر الأبيض للمحافظة على المظهر الشاب وجذب الفتيات.
صدقة الفقراء: الماكياج والجذام:
لم يقتصر استخدام مستحضرات التجميل على تحسين المظهر بل تجاوزه إلى استخدامات أخرى. فقد استعملها الفقراء لخداع الناس ونيل عطفهم للحصول على المال. ففي عام 1520 تم القبض على متسولٍ يحاول خداع أحد الأشخاص ليوهمه أنه أبرص.
وتحكي القصة أن متسولاً جلس أمام الكنيسة مع بعض القطع النقدية المتناثرة عند قدميه، وقد غطى وجهه ببثورٍ كبيرةٍ مصنوعةٍ من الغراء وملونةٍ بالأحمر، فكان مظهره شنيعاً للغاية فنال به شفقة المارة وصدقتهم. لكن تلك البثور تساقطت بعد غسل وجه المتسول بالماء الدافئ، وقد اعترف المتسول بأنه يعرف كيفية محاكاة أعراض العديد من الأمراض، وأن أكبر ربح ناله كان عند تقليده مرض البرص.
وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من الأطباء في العصور الوسطى لم يمانعوا مزج المستحضرات العلاجية بتلك التجميلية، إلا أن عدداً كبيراً منهم في الوقت ذاته بدأ بالتساؤل عن دورهم في مساعدة الناس على التغيير الجريء في المظهر الخارجي وصولاً به إلى حد التزييف.
المصدر:
هنا