هل يمكنُ تعليمُ الحيواناتِ لغةَ الإنسان؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات
ولكن هل يستطيعُ الحيوانُ فعلاً تعلّمَ اللغةِ البشرية؟
هذا ما يحاولُ مقالُنا التالي الإجابةَ عنه.
تُظهِر أصنافٌ متنوعةٌ من الحيواناتِ قدرةً على تقليدِ بعضِ جوانبِ اللغةِ البشرية، إذ يمكنُ تدريبُ الطيورِ الناطقةِ كالببغاءِ أو طائرِ الزرزيرِ لتقلّدَ لفظَ بعضِ الكلماتِ والعباراتِ بشكلٍ متقنٍ، ولكن ذلك لا يعني بالضرورةِ أنّ هذه الطيورَ قد اكتسبت لغةَ الإنسان، فالطيورُ الناطقةُ تعجزُ عن تحليلِ ما تقلدُه وتحديدِ مكوناتِه الأساسيةِ كما يفعلُ أيُّ طفلٍ صغير.
إذ أنّ الأطفالَ في طورِ النموِّ اللغويِّ يكتسبون اللغةَ بصورةٍ عفويةٍ من خلالِ الاستماعِ و التحليلِ واستنتاجِ القواعدِ ثم تعميمِها على أمثلةٍ مشابهةٍ حتى وإن لم يسمعوا بها من قبل، وهذا ما لا تستطيعُه الطيورُ الناطقة. فعلى سبيل المثال، إذا ما درّبنا الببغاءَ ليقول:
وسادة وسادات
مكتبة مكتبات
ثم علّمناه كلمةَ "ساحة" فإنّه لن يستطيعَ أن يستنتجَ بصورةٍ عفويةٍ الجمعَ "ساحات" كما يفعلُ الأطفالُ في طورِ اكتسابِ اللغة.
ومن المعروفِ أنَّ لكلِّ لغةٍ عددٌ محدودٌ من الكلماتِ والأبنيةِ الصرفيةِ والنحويةِ يستطيعُ الإنسانُ بواسطتِها إنتاجَ عددٍ غير محدودٍ من الجملِ والعبارات، ولكن حتى أفصحُ الببغاواتِ يعجزُ عن نطقِ كلماتٍ أو جملٍ لم يُلقَّنها من قبل.
وعدا عن ذلك، فإنّ الطائرَ لا يفهمُ أبداً ما يلفظُه من كلماتٍ، فهي بالنسبةِ له لا معنى لها، وليس لها أيُّ وظيفةٍ تفيد التواصلَ، وبالتالي يبدو لنا بوضوحٍ أن لفظَ جملةٍ أو مجموعةٍ من الكلماتِ لا يعني ببساطةٍ تعلمَ اللغة.
ولكن قد يسألُ سائلٌ : ماذا عن الحيواناتِ التي يبدو أنّها تفهمُ معنى الكلمات؟
ذلك أنه يمكنُ بسهولةٍ تدريبُ الكلابِ لتستجيبَ لبعضِ الأوامرِ الصوتيةِ مثلَ "قف" أو "اجلس" أو "أحضر الكرةَ" وسوى ذلك كأن تفهمَ أسماءَ بعضِ الأشياءِ مثل عصا أو لعبة أو دمية ...إلخ
في عام 2004 أجريت تجربةٌ على كلبٍ من نوع "بوردر كولي" يدعى ريكو يعيشُ مع مالكتِه في "دورتموند" التي أفادت بأنّ كلبَها قد تعلّم 200 كلمةٍ من بينِها كلماتٍ باللغتين الألمانيةِ والإنجليزية. وذكرَ علماءُ النفسِ من جامعةِ لايبزغ الألمانيةِ أنّ ريكو نجحَ في إحضارِ لعبةٍ محددةٍ من بينِ كومةِ ألعابٍ بنسبةِ 90 بالمئة كلَّ مرةٍ، وعندما يُطلبُ منه إحضارُ دميةٍ لم يكن قد تعلّمَ اسمَها من قبل كان ريكو يربطُ بين الاسمِ الجديدِ و لعبةٍ جديدةٍ من بينِ كومةِ الألعابِ ذاتِها بنسبةِ 70 % وهي تماثلُ النسبةَ التي أظهرَها الأطفالُ في تجاربَ مشابهةٍ.
كما أُجريت تجربةٌ أحدثُ على كلبٍ ينتمي إلى ذاتِ النوعِ يُدعى تشايسر ويعيشُ في ولايةِ كارولاينا الجنوبية، كان تشايسر يحفظُ أكثرَ من 1000 كلمةٍ تعلّمَها في فترةِ 3 سنوات، وقد أظهرت التجربةُ نتائجَ مماثلةً، فمثلما حدث في تجربةِ الكلبِ ريكو نجحَ تشايسر في إحضارِ الأشياءَ المقصودةِ و استطاعَ الربط َبين أسماءٍ جديدةٍ و أشياءٍ جديدة.
لا شكّ أنّ ريكو وتشايسر كلبانِ ذكيانِ ومهارتُهما في التعرفِ على الأشياءِ من خلالِ أسمائِها مذهلة. ولكن من غيرِ المرجّحِ، بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، أنّ ريكو وتشايسر يفهمان معنى الكلماتِ التي يحفظانِها أو أنّهما قد اكتسبا نظاماً لغوياً ودلالياً بنفسِ الطريقةِ التي يكتسبُ بها الأطفالُ لغتَهم. فالأمرُ ببساطةٍ أنّ ريكو أوتشايسر أو أيَّ حيوانٍ آخرَ قد تدرّبَ على الربطِ بين مجموعةٍ من الأصواتِ (كلمة( مع شيءٍ محددٍ أو أمرٍ عليه القيام به. فكلمةُ "سبونج بوب" لا تعني سوى الأمرُ بإحضارِ الدميةِ المربعةِ الصفراء، وهو الأمرُ الذي اعتادَه الحيوانُ من خلالِ التدريب. ولكنّ الأمرَ مختلفٌ بالنسبةِ للإنسان؛ فالطفلُ الصغيرُ الذي تعلّمَ اسمَ "سبونج بوب" يدركُ أنَّ الاسمَ يعودُ في الحقيقةِ إلى دميةٍ محددةٍ أو شخصيةٍ في الرسومِ المتحركةِ بمعزلٍ عن أيِّ سياقٍ أو اختبار.
وبعيداً عن الطيورِ والكلابِ، فإنّ الرئيسياتِ من الحيواناتِ كالشمبانزي والغوريلا تتواصلُ فيما بينَها في بيئتِها الطبيعةِ عن طريقِ إشاراتٍ حسيةٍ بصريةٍ وسمعيةٍ وشميةٍ ولمسية، ويرتبطُ معنى كثيرٍ من هذه الإشاراتِ بالظروفِ البيئيةِ الآنيةِ أو الحالةِ النفسيةِ لهذه الحيوانات، فتسطيعُ من خلالِ الإشاراتِ التعبيرَ عن الخطرِ أو العدائيةِ أو الخضوع. ولكن تبقى الأصواتُ والإيماءاتُ التي تصدرُ عنها نمطيةً ومحدودةً جداً في الشكلِ وعددِ الرسائلِ التي تنقلها.
ويظلُّ السؤالُ الذي يشغلُ بالَ الكثيرين فيما إذا كان لدى الرئيسياتِ من غيرِ الإنسانِ تلكَ القدرةُ الكامنةُ على اكتسابِ نظامٍ لغويٍّ معقدٍ يماثلُ اللغةَ البشرية. إذ أُجريت العديدُ من الدراساتِ التي قصدت الإجابةَ عن هذا السؤالِ فيما إذا كانت هذه الأصنافُ من الحيواناتِ قادرةً بالفعلِ على تعلمِ لغةِ الإنسان بما في ذلك الكلماتِ والقواعدِ النحويةِ ثم الربطِ بينهما، وقام الباحثون في التجاربِ المبكرةِ بتربيةِ قرودٍ من نوعِ الشمبانزي في منازلِهم جنباً إلى جنبٍ مع أطفالِهم، والقصدُ من ذلك هو خلقُ ذاتِ الظروفِ الطبيعيةِ التي يكتسبُ بها صغارُ البشرِ اللغة. وبينما نجحت القرودُ في فهمِ عددٍ من الكلماتِ المنفصلة، عجزت عن الكلامِ ولفظِ الأصواتِ على الرغمِ من الجهودِ الحثيثةِ لمربيها، ويعود السببُ في ذلك إلى طبيعةِ الأعضاءِ الصوتيةِ في جسمِ الشمبانزي التي لا تساعدُه على لفظِ العديدِ من الأصوات.
وفي المحصلةِ، تبقى اللغةُ والقدرةُ الفطريةُ على اكتسابِها حالةً ينفردُ بها الإنسانُ عمّا سواه، فمهما أظهرتِ الحيواناتُ ذكاءً تبقى عاجزةً عن التعبيرِ عن عواطفِها بالأمسِ أو التعبيرِ عن تطلعاتٍ مستقبلية. و هذا ما يلخّصه قولُ الفيلسوفِ الإنجليزيِّ برتراند راسل: "مهما نبحَ الكلبُ ببلاغةٍ، فإنه لا يستطيعُ أن يخبركَ كيفَ كان والداه وفيّين وبائسَين".
المصادر:
1.Fromkin، Victoria، Robert Rodman، and Nina Hyams. An Introduction to Language. New York: Wadsworth، Cengage Learning، 2014. Print. 10th. Page: 19-20
هنا