الفن البيزنطي... آيا صوفيا إنموذجاً
التاريخ وعلم الآثار >>>> منارات ثقافية
لم تكن العناصر اليونانية والرومانية والشرقية والمسيحية قد أتمّت امتزاجها ليكون منها الفن البيزنطي قبل عهد جستنيان. فلقد أتاحت له فتنة نيقا Nika، كما أتاح حريق روما لنيرون من قبل، فرصة بناء عاصمته من جديد. ذلك أن الغوغاء في لحظة من لحظات نشوة الحرية أحرقوا دار مجلس الشيوخ، وحمامات زيوكسبوس Zeuxippus وأروقة الأوغسطيوم، وجناحاً من أجنحة القصر الإمبراطوري، وآيا صوفيا كنيسة البطرق الكبرى، وكان في وسع جستنيان أن يعي بناء هذه كلها حسب تخطيطها القديم فلا يتطلب هذا منه أكثر من عام أو عامين. لكنه لم يفعل هذا وصمم على أن في بنائها مزيداً من الوقت والمال وأن يستخدم في هذا البناء عدداً كبيراً من الرجال، وأن يجعل عاصمة ملكه أجمل من روما، وأن يقيم فيها كنيسة لا يدانيها صرح آخر في العالم كله. وكانت بداية عمله أن وضع في ذلك الوقت منهجاً للأبنية أوسع وأعظم من أي منهج آخر وضع لها في التاريخ: وكان هذا المنهج يَشمل حصوناً، وقصوراً وأديرة وكنائس وأروقة معمدة، وأبواباً أقيمت في جميع أنحاء الإمبراطورية. ففي القسطنطينية أعاد بناء مجلس الشيوخ من الرخام الأبيض، وشاد حمامات زيوكسبوس من الرخام المتعدد الألوان، وبنى رواقاً معمداً من الرخام، ومتنزهاً في الأوغسطيوم، ونقل الماء العذب إلى المدينة في قناة مبنية جديدة تضارع أحسن ما وجد من القنوات في إيطاليا. أما قصره فلم يكن يعلو عليه قصر آخر في البهاء والترف. فقد كانت أرضه وجدرانه من الرخام، وسُقُفه تقض بالفسيفساء البراقة ما ناله من النصر في أيام حكمه، وتصور الشيوخ في حفلاتهم يقدمون للإمبراطور مظاهر الإجلال والتعظيم، وبني على الجانب الآخر من البسفور، بالقرب من خلقيدون مسكناً صيفياً لثيودورا وحاشيتها هو قصر هريون الذي كان له مرفؤه وسوقه وكنيسته وحماماته الخاصة به.
وبعد أربعين يوماً من خمود نار الفتنة نيقا بدأ يبني كنيسة آيا صوفيا الجديدة. ولم يقمها إلى قديسة تحمل ذلك الاسم، بل أقامها إلى المقدسة صوفيا Hagia Sophia أو الحكمة المقدسة، أو العقل الخلاق. وأستدعى لهذا الغرض من ترالبس في آسية الصغرى، ومن ميليتس الأيونية، أنثميوس وأزدور أعظم المهندسين الأحياء، ليضعا رسوم البناء ويشرفا على تشييده. ولم يتبع المهندسان شكل الباسلقا التي جرت عليه التقاليد، بل وضعا للبناء تصميماً تكون صرته قبة واسعة لا ترتكز على جدران بل على أكتاف ضخمة، وتسندها نصفا قبتين من كِلا الجانبين. واستخدم في العمل عشرة آلاف عامل، وأنفق عليه 320.000 رطل من الذهب (134.000.000 دولار أمريكي) وهو كل ما كان في خزانة الدولة، وأمر حكام الولايات بأن يبعثوا إلى الكنيسة المخلفات القديمة، وجيئ بعشرات الأنواع والألوان من الرخام من مختلف الأقطار وصبت في النقوش والزينات مقادير هائلة من الذهب، والفضة، والعاج، والأحجار الكريمة. واشترك جستنيان نفسه اشتراكاً عملياً في تخطيط البناء وإقامته، وكان له نصيب غير قليل في حل ما يعترض العمل من المشاكل الفنية. فكان يتردد عليه في كل يوم وعليه ثياب بيض، وفي يده عصا طويلة، وعلى رأسه منديل، يشجع العمال ويحثهم على العمل ويتموه في موعده المقرر. وتم بناء الصرح العظيم في خمس سنين وعشرة أشهر؛ وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر من عام 537 أقبل الإمبراطور والبطريق ميناس يتقدمان موكباً مهيباً لافتتاح الكنيسة المتلألئة الفخمة.
هندسة البناء :
وقد خُـطَّ البناء على شكل صليب يوناني طوله 250 قدماً وعرضه 225، وغطى كل طرف من أطرافه بقبة صغرى، وقامت القبة الوسطى على المربع (البالغ 100 قدم × 100) والمكون من الضلعين المتقاطعين، وكانت ذروة القبة تعلو عن الأرض مائة وثمانين قدماً. وقطرها مائة قدم - أي أقل من قطر قبة البنثيون في روما باثنتين وثلاثين قدماً- وكانت هذه القبة الثانية قد صبت من الأسمنت المسلح قطعة واحدة مصمتة، أما قبة آيا صوفيا فقد بنيت من الآجر في ثلاثين سطحاً تلتقي كلها في نقطة واحدة- وهو طراز أضعف من الطراز الأول- وليست ميزة هذه القبة في حجمها بل في دعائمها: فهي لا تقوم على بناء دائري كما تقوم قبة البنثيون بل على أربطة من أعلاها، وعلى عقود بين حافاتها المستديرة وقاعدتها المربعة. ولم تحلّ هذه المشكلة المعمارية قبل ذلك الوقت حلاً أكثر توفيقاً من هذا. وقد وصف بروكبيوس القبة بأنها "عمل مجيد يبعث الروعة في النفوس... وهي لا تبدو قائمة على ما تحتها من البناء بل تبدو كأنها معلقة بسلسلة من الذهب في أبراج السماء".
وأما من الداخل فكانت الكنيسة صورة رائعة من الزخرف البرّاق. فقد كانت أرضها وجدرانها من المرمر المتعدد الألوان: أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وأرجواني وذهبي. وأقيم منه كذلك طابقان من العميد يخيل أنها حديقة من الأزهار. وكانت تيجان العمد، والعقود وما بينهما، والأفاريز، والطنف مغطاة بنقوش على الحجارة مكونة من أوراق الأكنثوس والكرم. وكان يطل من الجدران والقباب فسيفساء لا مثيل لها في روعتها وسعتها. وكانت تضيئها أربعون ماثلة من الفضة معلقة من حافة القبة تضاف إلى ما فيها من النوافذ الكثيرة. وإن ما يحس به الناظر إلى هذه الكنيسة من سعة تبعثها في نفسه أجنحتها الطويلة، وبنائها الرئيسي، والفضاء الخالي من العمد تحت القبة الوسطى، وما في حظارها الفضي المواجه للقباء من زخارف معدنية، والحظار المعدني الجميل الذي في الإيوان الأعلى، والمنبر المرصع بالعاج والفضة والحجارة الكريمة، وعرش البطريق المصنوع من الفضة المصمتة، والسجف المنسوجة من خيوط الحرير والفضة، والتي ترتفع فوق المذبح وعليها صورتا الإمبراطور والإمبراطورة تتلقيان بركات المسيح ومريم؛ والمذبح الذهبي اللون المصنوع من الرخام النادر الوجود وعليه الأواني المقدسة من الفضة والذهب -وهو بعض ما في الكنيسة من زخرف وزينة- ليجل عن الوصف، ولو أن جستنيان قد تباهى به أباطرة المغول من بعده، وهو أنهم كانوا يبنون كما يبني الجبابرة، ويزينون مبانيهم كما يزينها الصباغ، لكان على حق في مباهاته. فقد كانت آيا صوفيا بداية الطراز المعماري البيزنطي وخاتمته في آن واحد، وكان الناس في كل مكان يسمونها "الكنيسة الكبرى".
من القسطنطينية إلى رافنا:
كانت آيا صوفيا أجلَّ ما قام به جستنيان من الأعمال، وكانت أبقى على الدهر من فتوحه أو قوانينه، ولكن بروكبيوس يصف أربعاً وعشرين كنيسة أخرى بناها جستنيان أو أعاد بناءها في عاصمة ملكه. ويقول: "لو رأيت كنيسة منها بمفردها لحسبت أن الإمبراطور لم يبْن كنيسة سواها بل قضى سني حكمه جميعها في بنائها وحده". وظلت حمى البناء منتشرة في جميع أنحاء الإمبراطورية طوال حياة جستنيان، حتى كان القرن السادس وهو بداية العصور المظلمة في الغرب من أكثر العصور ازدهاراً في تاريخ العمارة في الشرق. فكانت ألف كنيسة في إفسوس وإنطاكية وغزة وبيت المقدس والإسكندرية وسلانيك ورافنا ورمة واللاد الممتدة من كرش في بلاد القرم إلى الصفاقس في شمالي أفريقية، تحتفل بانتصار المسيحية على الوثنية، وبالطراز الشرقي-البيزنطي على الطراز اليوناني-الروماني. وحلّت العقود والقباب محل الأعمدة الخارجية والعوارض والقواصر والطنف. وازدهرت في سوريا نهضة حقه في القرن الرابع والخامس والسادس؛ فكانت مدارسها القائمة في إنطاكية وبيروت ونصيبين تخرج العدد الجم من الخطباء والمحامين والمؤرخين والخارجين على الدين. وبرع صنّاعها في أعمال الفسيفساء والنسيج وجميع الفنون الزخرفية، وشاد مهندسوها مائة كنيسة زينها مثّالوها بما لا حصر له من النقوش البارزة.
وكانت الإسكندرية المدينة الوحيدة في الإمبراطورية التي كان ازدهارها متصلاً لم ينقطع أبداً. ذلك أن مؤسسها قد اختار لها مكاناً يكاد يرغم عالم البحر المتوسط على استعمال مرافئها وزيادة تجارتها. ولم تبق الأيام على شيء مما أقيم فيها من عمائر في تاريخها القديم أو في أوائل العصور الوسطى، ولكن ما بقى من أعمالها في المعادن والعاج والخشب والتصوير، متفرقاً في أماكن مختلفة يوحي بأن أهلها قد بزوا غيرهم في الشهوانية والحمية الدينية. وكان الطراز الشرقي في عهد جستنيان هو الطراز الغالب في فن العمارة القبطي الذي بدأ بالباسلقا الرومانية.
وبدأ مجد رافنا المعماري بعد أن اتخذها هونريوس عاصمة الإمبراطورية الغربية في عام 404 بزمن قليل. وعم الرخاء المدينة في الفترة الطويلة التي كانت فيها جلا بلاسيديا Galla Placidia نائبة عن الإمبراطور، وكانت صلتها الوثيقة بالقسطنطينية سبباً في قدوم الصنّاع الشرقيين، واختلاطهم بالمهندسين الإيطاليين: وفي دخول الأنماط الشرقية وامتزاجها بالأشكال الإيطالية. وظهر فيها الطراز الهندسي الشرقي المؤلف من قبة مقامة على قاعدة ذات شكل صليبي منذ عام 450 في الضريح الذي لقيت فيه بلاسيديا ربها. وفي عام 458 أضاف الأسقف نيون Neon إلى مكان التعميد المقبب في باسلقا أرسيانا Basilica Ursiana سلسلة من قطع الفسيفساء من بينها صورة مفردة للرسل. وساد ثيودريك حوالي عام 500 كنيسة كبرى سماها باسم القديس ابلينارس الذي يقال إنه مؤسس العشيرة المسيحية في رافنا. وهنا يظهر على الفسيفساء التي طبقت شهرتها آفاق العالم للقديسون ذوو الثياب البيض في وقارهم الشديد الذي ينبئ ببداية الطراز البيزنطي.
وكان استيلاء بليساريوس على رافنا من الأسباب التي عجلت بانتصار الفن البيزنطي في إيطاليا. وسرعان ما تمت كنيسة سان فينالي San Vitale (547) في عهد جستنيان وثيودورا، اللذين وهباها المال اللازم لتزيينها، كما وهباها أيضاً وجهيهما غير الجذابين لينقشا على جدرانها. وما من شك في أن الإمبراطور قد أوتي حظاً كبيراً من الشجاعة إذ أجاز أن تنقل صورتهما إلى الخلف. ومواقف أولئك الحكام والقساوسة تنبئ كلها عن صلابة وحدة في الطباع، وفي مظهرهما الأمامي الجامد ليعد انقلاباً في الصور التي كنا نشهدها قبل عصور اليونان والرومان الأقدمين. وأثواب النساء كثيرة الزركشة تعلن انتصار نقوش الفسيفساء، ولكننا لا نجد هنا رشاقة مواكب البارثنون للمرحة والسعادة، أو نصب السلام لأغسطس أو ما نشاهده في الصور المنقوشة على أبواب شارترز وريمز من نبل ورقة.
وبعد عامين من افتتاح كنيسة سان فيتال افتتح أسقف رافنا كنيسة سانت ابلناري في كلاس Class وهي ثاني كنيسة أقيمت لهذا القديس راعي المدينة؛ وكان موضعها في ضاحيتها التي على شاطئ البحر، والتي كانت في وقت ما قاعدة الأسطول الروماني على البحر الأدرياوي. ونشاهد فيها التصميم الباسلقي الروماني القديم، ولكن تيجان الأعمدة المختلطة الأشكال تظهر عليها مسحة بيزنطية تنم عنها أوراق الأقنتا الملفوفة الملتوية على خلاف ما كان يظهر في الأنماط اليونانية والرومانية القديمة، كأنما هبت عليها ريح شرقية. وإن ما في هذه الكنيسة من صفوف الأعمدة الكاملة الطويلة، وفي حليات العقود والمثلثات المحصورة بينها من فسيفساء زاهية (من القرن السابع)، وما في موضع المرنمين من لوحات جميلة من المصيص، وما في الصليب القائم في القبا من الجواهر مرصعة بها أرضية من النجوم في الفسيفساء، إن في هذا كله ما يجعل هذه الكنيسة من أشهر كنائس شبه الجزيرة التي تكون كلها معرضاً عظيماً الفنون الجميلة.
يمكنك قراءة سلسلة الفن البيزنطي من هنا و هنا
المصادر:
رينسمان. ستيفن، الحضارة البيزنطية، ترجمة:عبد العزيز جاويد، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1997م.
شينيه. كلود، تج زيناتي. جورج، تاريخ بيزنطية، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2008.
ديورانت. ويل، قصة الحضارة.