لمَ لا يُمكنكَ تعلمُ لغةٍ أُخرى كما تعلّمتَ لُغتكَ الأولى؟
التعليم واللغات >>>> اللغويات
إن الهبةَ المميزة التي يمتلكها الأطفالُ لتعلم اللغات هي حقيقةٌ لا شك فيها، أو على أقلِ تقديرٍ قدرتُهم على تعلم لغتهم الأولى، ولهذا عدة أسباب، لكن جميعها سيقودنا إلى نتيجةٍ واحدةٍ؛ وهي أنه لم يسبق أن سمعنا عن طفلٍ أخفق في إتقانِ لغته الأم. وبالمقابل نجدُ القليل من البالغين الذين تمكنوا من إتقان اللغة الثانية التي قرروا تعلُّمَها، بل على العكس نجد أن معظمهم قد تعثّروا في الدورات التي بدؤوها ولم يكملوها.
لذا فإنه من غير المفاجئ عندما نجد أنَّ الباحثين قد حاولوا على مدار سنين طويلة أن يحددوا على وجه الدقة السببَ الذي يجعلُ تعلُّمَ اللغات لدى الأطفالِ أمرًا في منتهى السهولة، ودوراتُ تدريس اللغة "الفطرية" هي حصيلةُ تلك البحوث، ومهمتها تقليدُ الطريقة التي يتعلم بها الأطفالُ لغتَهم الأولى وإعادةُ تطبيقها تطبيقًا يمكِّن المتعلمين الراشدين من تعلم اللغة الثانية بطريقةٍ مشابهة، فهل هي حقًا طريقةٌ شبيهة بتلك التي يتعلم بها الأطفال؟ بالتأكيد. وهل هي جذّابةٌ وممتعة؟ ربما. ولكن هل تجدي نفعًا؟ قطعًا لا. فما الذي يميّزُ الأطفالَ عن البالغين في مجال تعلم اللغات؟
1- ميزة الذاكرة اللغوية الفارغة
عندما يُسأل البالغون عن عدم قدرتهم على تعلم اللغات بالكفاءةِ العاليةِ التي يتعلمُ بها الأطفال، فإن معظمَهم يجيبُ بأنهم ليسوا أطفالًا؛ إجابةٌ بديهية، أليس كذلك؟ فالبالغون مختلفون ويتمتعون بمداركَ أوسع وقدراتٍ أكبر من تلك التي لم يكتسبها الأطفالُ بعد، نحن نتكلمُ بسهولةٍ تامة ونقرأُ ونكتبُ أيضًا، لكن عند التفكيرِ مليًا في قدراتنا هذه يتبين لنا أن هذه العواملَ عيوبٌ وليست ميزات، فقدرتك على الكلام والكتابة والقراءة قد يكون لها أثرٌ إيجابي في دراستك للُّغة وليس في تعلمك إياها، ولكن ما السببُ الذي قد يجعلُ من قدرتك على القراءةِ عاملًا غيرَ مساعد أبدًا عند تعلم لغة ثانية؟ يمتلكُ المتعلمون البالغون ميزةً مهملةً تخفِّضُ من فرصهم في إجادة لغةٍ ثانية، ألا وهي اللغة الأم. قد يبدو ذلك مفاجئًا، ولكنك إن فكرت مليًا فستجدُ أننا في أثناء تعلمنا للغةٍ جديدةٍ نميلُ إلى مقارنةِ ما نتعلمه حديثًا عن اللغةِ الثانيةِ بما تعلمناه مسبقًا عن لغتنا الأم، ويعدُّ هذا السلوك طبيعيًا ومفيدًا في حالاتٍ معينة، خاصة إذا ما كانت اللغتان مترابطتين ومتداخلتين بشدة، لكن مقارنةً كهذه قد تقودُ في نهاية الأمر إلى العديد من المشكلات والصعوبات إذا ما أردنا مثلًا أن نتذكرَ كلمةً معينةً هي في لغتنا الأم مذكّرةٌ بينما هي مؤنثة في اللغة التي نتعلمها، وعلى خلاف ذلك فإن الأطفال لا يواجهون مثل هذه المشكلات لأن دماغَهم يشبه إلى حدٍ كبيرٍ ورقةً بيضاءَ تُكتبُ عليها اللغةُ الأم دون أية صعوبات ويعودُ ذلك ببساطةٍ إلى عدم وجود لغةٍ سابقةٍ للمقارنة؛ إذ يتقبلُ الطفلُ لغتَه الأم كما هي دون وجود أية معرفةٍ سابقةٍ قد تعيق ذلك أو تبطئُ عملية التعلم، ولذلك فهو يكتسبها بسرعةٍ واحتراف، ونستطيع القول في هذا الخصوص إن في الجهل سعادةً عظيمة!
2- مشكلة التفكير التجريدي
إذا أتيح للبالغين تعلمُ لغة ثانيةٍ وإتقانُها تمامًا فقد تكون القدرةُ على التخيلِ والتفكيرِ بأفكارٍ ومفهوماتٍ مجردةٍ سلاحًا ذا حدين في عملية التعلم، ولا نستطيعُ إنكارَ أنَّ قدرتَنا على التفريق بين أنواع القواعد اللغوية وأجزاء الكلام والنحو بين اللغتين هي بحد ذاتها مهارةٌ عظيمة، لكن امتلاكَ قدرةٍ كهذه ستجبرنا ما حيينا على المقارنة بين اللغاتِ التي تعلمناها أو نتعلمها محاولين -ومخفقين غالبًا- في إيجاد التشابه بين قواعد اللغة الثانية وقواعد لغتنا الأم. ومن جهة أخرى، فإن الطفلَ الذي لم تُفسده بعد القدرةُ على التفكيرِ التجريدي لا يُكلِّفُ نفسه عناءَ التمييزِ بين الأسماء والأفعال والصفات، وهو يتوقعُ أنَّ لكل كلمةٍ ما يقابلُها من الأجسام أو الأشياء، ونظرًا إلى أن احتمالية نجاح الطفل في اكتساب أية لغة هي 100% فإنه من الجدير بنا استخدامُ أسلوب الأطفال في التعلم لكونه تقنية فعالة لاكتساب اللغات، لكن -ولسوء الحظ- فإنه من المستحيل على البالغين تطبيقُ هذا أو تقليدهُ بسبب اعتمادِهم المفرط على الأفكار المجردة كالنحو مثلًا.
3- اختلافُ الغايات والأهداف:
لن نستطيع بصفتنا بالغين أن نتعلمَ اللغةَ كالأطفالِ ويعودُ ذلك إلى الغاياتِ والأهدافِ المختلفة التي وضعناها لأنفسنا عندما بدأنا بتعلم لغة ثانية، ووجود مثل هذه الأهداف والغايات للتعلم هو ما يجعلنا مختلفين عن الأطفال، فالطفل لا يملكُ أي سببٍ حقيقيٍ ليتعلم اللغة، هو يتعلمُ فقط نتيجةً لانغماسِه فيها وتعرضِه لها دون أن يبذلَ أدنى جهدٍ في تعلمها، وإضافة إلى ذلك يستغرقُ الطفل أشهرًا عديدةً ليبدأ بالكلام، ولا ينطبقُ أيٌّ من هذا على المتعلمين الكبار، فغالبًا ما يكون للإنسان البالغ هدفٌ يرجوه عند البدء برحلة تعلم أية لغة، كزيادة فرص القبول في سوق العمل أو القدرة على التواصل بسهولة على متن الطائرة أو في خلال السفر حول العالم. وقد تكونُ هذه الأهدافُ متواضعةً في حالاتٍ أخرى، كشابٍ يريد الحصول على فرصةِ التحدثِ مع الفتاة الإيطالية الجميلة التي قابلها في إحدى رحلاته وأحبها حبًا شديدًا دون أن يجد طريقةً لمخاطبتها!
وبغضِّ النظر عن طبيعة هذه الأهداف، فإننا بصفتنا بالغين نمتلكُ دافعًا لتعلم لغة أخرى ونتيجةً لوجودِ هذه الدوافعِ فإننا نرغبُ أن نتقن اللغة بمجرد البدء بتعلُّمِها دون الخضوع لما أشار إليه (ستيفن كراشن)، الأستاذ الفخري في مجال اللغويات في جامعة جنوب كاليفورنيا، بـ»المرحلة الصامتة« التي يبقى فيها المتعلم كالطفلِ في أثناء اكتسابه للغته الأم؛ إذ لا يتكلم وإنما يستمع فقط. وغالبًا لا يمرُّ البالغون بمثل هذه المرحلةِ نظرًا إلى الضغوط التي يخضعون لها ليتمكنوا من التحدث في المراحل المبكرة من التعلم، ويعودُ ذلك إلى حاجتهم إلى التواصل لكون اللغة ضروريةً في مجال العمل.
وعند أخذِ كل العوامل السابقة في الحسبان نجدُ أن تعلم لغةٍ ثانيةٍ باستخدام الطريقة التي اكتسبنا بها لغتنا الأم يبدو مستحيلًا تمامًا، فمن الآن فصاعدًا عليكَ ألا تأخذ على محمل الجد تلك الادعاءاتِ التي تقولُ بأنك ستتعلمُ أية لغةٍ بالطريقة السهلة نفسها التي تعلمت بها لغتك الأم.
المصدر:
هنا