تاريخ الشارب
الفنون البصرية >>>> فن وتراث
وقد كان للشارب في انكلترا مكانةٌ خاصة كعلامةٍ مميزةٍ في الموضة، حيث كان لفرسان انكلترا في العصور الوسطى دروعٌ مخصصةٌ لتتناسب مع شواربهم. فتجدُ مثالاً على ذلك من القرن الرابع عشر تمثال إدوارد أمير ويلز الذي يملك وشاحاً يغطي رقبته ووجهه بينما يسمح لشاربه بالظهور واضحاً. وفي العصر الإليزابيثي بات الشارب رمزاً للموضة في انكلترا عندما وصل الملك جيمس الأول إلى العرش فخوراً بشاربه الرفيع، والذي خُلّد في اللوحات التي صورت الملك. وظهر بعده ابنه الملك تشارلز الأول بصورة أيقونية ارتسم فيها على وجهه عُثْنونٌ (لحية صغيرة منمنمة تغطي الذقن فقط - تسمى في العامية: سكسوكة) قام بتقليده كل رجلٍ متابعٍ للموضة في ذلك الوقت، حينما عرض السير انتوني فاندايك لوحاته التي تصور الملك. وادّعى البعض لاحقاً أن غيرة أوليفر كومويل من شارب الملك الرائع كانت السبب الذي دفعه للقيام بالثورة الجمهورية وقيادتها، والتي لم يعدم الملك فحسب بسببها بل أُعدم معه أحد أكثر أتباعه ولاءً وهو أرثر كابيل، الذي يظهر في صورة مصغرة رسمها جون هوسكينز بشاربٍ رفيعٍ ومبرومٍ ومرفوعٍ لأعلى بشكل أشبه بالستائر المسرحية.
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا قد تعبت فيه من الحكم الصارم واشتاقت للمسارح والرقص وحياة اللهو، وصل الملك تشارلز الثاني إلى العرش. وظهر في لوحاته بشاربٍ حافظ عليه منذ بدايات مراهقته، وليس ذلك بأمرٍ مستغربٍ لشخصٍ خاض أول معاركه في عامه الثاني عشر. وفي أواخر القرن السابع عشر تراجعت موضة اللحى بشكلٍ كبيرٍ في اوروبا، وفي روسيا كذلك حيث فرض القيصر ضريبة على إطالة اللحية، لينعكس ذلك التراجع إيجاباً على الشوارب. وبحلول القرن الثامن عشر انتشرت الشوارب اللامعة والمفتولة والمشذبة بعناية فائقة لتتصل مع السوالف، ليصبح الشاربُ وبلا منازعٍ رمزَ الرجل العصري.
لكن جيل الشباب في النهاية تخلى عن كل ذلك واتجه إلى تقليد شاعرٍ مجنونٍ وخطير، وهو اللورد بايرون الذي حافظ على وجهه حليقاً خالياً من الشعر باستثناء شاربٍ رفيعٍ وانسيابيّ الشكل، بعكس العادات السائدة. ولعدة عقودٍ سادت موضة الشوارب البايرية لكونها جذابة جداً، إلى أن تغيّر الحال عام 1854 مع بداية حرب القرم وعودة اللحى الكثيفة. عندما انتهت الحرب عام 1856 عاد الجنود بلحى كثيفةٍ للغاية غطت وجوههم، وصارت اللحية رمزاً للبطولة والرجولة فعاد الرجال البريطانيون إلى إطالة لحاهم. وكادت الشوارب في تلك الفترة أن تختفي (كما أشار الكاتب فرانك ريتشاردسون بقوله: كانت أوقاتاً صعبة للشوارب).
بحلول القرن التاسع عشر خرجت اللحى من سباق الموضة أخيراً باستثناء كبار السن المحافظين، وذلك بعد اكتشاف البكتريا ونشر العديد من التقارير الصحافية التي ربطت الجراثيم باللحى. وبالتالي سُنّت قوانين جديدةٌ في أوروبا وأمريكا الشمالية تمنع الرجال الملتحين من العمل في مجالات الأطعمة، كما بدأت المستشفيات بحلاقة لحى المرضى سواءٌ أرادوا حلاقتها أو لا. وتلا ذلك الحرب العالمية الأولى التي مُنع فيها الجنود من إطالة لحاهم بسبب عدم تناسبها مع أقنعة الغاز المستخدمة، كما كان الشارب ميزة خاصة بذوي الرتب العسكرية العالية. وعندما انتهت الحرب بدأت ثورة جديدة للشارب، فكان الجنود الذين أُجبروا سابقاً على الحلاقة يومياً يطيلون شواربهم كما شاؤوا.
بات الشارب شعاراً للرجل العصري، ففي عام 1920 نشرت الكاتبة الشابة أغاثا كريستي أول روايةٍ بوليسيةٍ لها "القضية الغامضة في مدينة ستايلز" وقدّمت فيها بطلها هرقل بوارو بشاربه الشهير. وفي هوليوود أطال كلارك غيبل وايرول فلين ورونالد كولمن شواربهم التي وقعت النساء في حبها. لكن الشارب بات مهدداً بينما اتجه العالم نحو الكساد الاقتصادي، ففي عام 1932 نشر غراهام مقالاً بعنوان: كيف تحصل على عملٍ خلال الكساد، وقال فيه: إن كنت تبحث عن عملٍ فعليك بحلق شاربك، قد يساعدك شاربك في الحصول على عملٍ كراقصٍ أو شيخ لكنك لن تجد عملاً كهذا أثناء الكساد. وعندما تصدّر الممثل تشارلز لوتون عناوين الجرائد عام 1936 وقد أطال لحيته وشاربه كان القرّاء متأكدين أنه فعل ذلك لأجل دوره في فيلم ريمبرانت فقط.
أما في اسبانيا فقد صار الشارب جزءاً من الفن السيريالي بعد أن بات شارب سلفادور دالي أسطورةً وصُوّت له كأكثر الشوارب شهرةً وتميزاً في العالم. وحين سُئل دالي في إحدى المقابلات الشخصية عمّا إذا كان شاربه مزحةً، أجاب بأنه أكثر الأشياء جَدَاً في شخصيته. بعد الحرب العالمية الثانية باتت الشوارب الشبيهة بفرشاة الأسنان موضةً قديمةً، واحتل مكانها نمطٌ جديدٌ من الشوارب المفتولة: "شارب مقود الدراجة" الذي كان رمزاً لأشجع أبطال الحرب من الطيارين المقاتلين. ففي عام 1947 أقام الممثل والطيّار السابق في سلاح الجو الملكي البريطاني جيمي ادوارد حفلاً في غرفة تبديل الملابس الخاصة به في مسرح لندن، وكان ذلك الحفل الاجتماع الافتتاحي لنادي مقود الدراجة الذي لا يزال قائماً، وكان شرط الانتساب له أن يملك الرجل شارباً كثاً ذو أطرافٍ مفتولةٍ جيداً، كما كان للنادي سياسةٌ صارمةٌ ضد اللحى.
عادت اللحى لتنتقم في فترة ستينات وسبعينات القرن الماضي لتتلاشى الشوارب تقريباً قبل أن تستعيد الأضواء مرةً أخرى في الثمانينات، حين أسر شارب الممثل توم سيليك في مسلسل ماغنوم قلوب ربات المنازل من جزر هاواي حتى مانشستر، وحذا الممثلون حذوه في سبيل امتلاك جاذبيته للنساء مثل ايدي مورفي وديك فان دايك لكن أحداً منهم لم يصل فعلاً للمكانة التي وصل إليها توم عند النساء والفتيات، إلى أن تخلى توم عن شاربه أخيراً في سلسلة الأصدقاء التلفزيونية حين قبّل مونيكا. ورغم كون شاربه أسطورياً في عالم الفن إلا أنه يتضاءل أمام أطول شارب في العالم، وهو شارب رام سينغ الذي دخل موسوعة غينيس عام 2010 بطول 4.29 متراً. وإطالة شاربك إلى هذا الحد في عصرنا الحالي يتطلب شجاعةً كبيرةً.
في عام 2003 أنشأ ثلاث رجالٍ استراليين منظمةً لرعاية وإطالة الشوارب والتوعية بصحة الرجال. دُعيت هذه المنظمة باسم "موفمبر" وترعى الآن حدثاً سنوياً تجري خلاله عدة مسابقات خاصة بالشوارب. وتطرح فيها مواضيعُ تهتم بالحفاظ على صحة الرجال والتوعية بالمشاكل الصحية المتعلقة بالرجال. وعندما وصلت المنظمة إلى مكانة عالمية تطلع أعضاؤها إلى العصر الذهبي في هوليوود كمصدر للإلهام، فأطلقت شركة فيليبس حملةً إعلاميةً من خلال فيديو عنوانه "كيف تحصل على شارب كلارك غيبل". وقد شهد أعضاء موفمبر دفعةً حقيقةً في شعبية الشوارب، وبدأ الكثير من الرجال بإطالة شعر وجههم لشهور لأجل المشاركة في مهرجان المنطمة السنوي. إلا أن سؤالاً يطرح نفسه حول مدى استمرارية موفمبر بالنجاح في سباق الموضة، فموضة شعر الوجه متغيرة مثل الأزياء التي تتغير باستمرار من خصرٍ ضيقٍ إلى عريضٍ أو مرتفعٍ أو منخفضٍ. لكننا إن عدنا إلى التاريخ وأمعنا النظر فيه سندرك أن الشارب سيصمد تارةً ويختفي أخرى لكنه لن ينقرض نهائياً.
المصادر:
هنا
هنا