فرانشيسكو بيترارك
التاريخ وعلم الآثار >>>> النهضة الأوروبية و أعلامها
فرانشيسكو بيترارك هو أبُ الحركة الإنسانيّة وبمعنىً آخرَ الرّائد الأوّل لعصر النّهضة، ولد عام 1304 في إيطاليا، ثم انتقل مع عائلته إلى أفينيون بجنوب فرنسا، درس القانون ليعيش في أفينيون والتي كانت مقر البابوية المسيحية ليستقر أخيرا في إيطاليا حتى وفاته عام 1374.
عمل بيترارك كمبعوث دبلوماسيّ للكنيسة باعتباره رجل دين، ترحاله الدائم جعله يتبحّر في الحقبة الكلاسيكية فكانت إعادة اكتشافه لها بمثابة الشّعلة الّتي أطلقت عصر النهضة لاحقاً. لقد كان تبحره في تلك الحقبة خروجاً من حدود الزمن الذي يعيش فيه، وقد شعر بأنه "وسط عواصف متنوعة و محيرة" لقد آمن بيترارك بأن الإنسانية بإمكانها أن تصل إلى أعلى درجات إنجازات الماضي. لقد كانت عقيدته التي اعتنقها والمدعوة بالإنسانية الجسر الواصل بين العصور الوسطى وعصر النهضة.
تعود شهرة بيترارك في العالم الحديث إلى شعره المكتوب بالعامية الإيطالية ويعتبر من أحد آباء اللغة الإيطالية، ولكن لماذا هي عامية؟ لأنها كانت اللغة المحلية الغير مستخدمة رسمياً أو أدبياً، لقد كانت اللاتينية هي اللغة الرسمية الفصحى لجميع أنحاء أوروبا المسيحية باعتبارها لغة الكنيسة. لقد كانت قصائد بيترارك علامة فارقة بجماليتها وأدبيتها الراقية وأروع ما نظمه كان في الغزل لمحبوبته "لورا" حيث أن الرومانسية التي أبدعها في قصائده أثرت بجميع من أتى بعده. لم تعش لورا طويلاً، فقد توفيت في السادس من نيسان سنة 1348، أي يوم كان بترارك في الرابعة والأربعين من سنوات عمره، ويوم كانت هي نفسها في أوج العمر. عندها ظهر في نتاجه حب الله والطبيعة والمرأة، أو قل إن لورا والحب الملتاع والشاعر المعذب قد صاروا يشكلون الثالوث الذي ينسج قصيدة بترارك، في الغالب الأعم. كما أن ذلك الموت قد دفعه إلى الغوص في أعماق الأشياء، وكذلك إلى دمج الروح الوثنية والروح المسيحية في ملغمة واحدة. ولكنه شعر بالخسران الفادح، فقال: "خسرت ما لا أمل في استرداده بتاتاً". وراح يتساءل على هذا النحو: "هل يفكر الله بأن يجعلها نجمة في السماء، أو ربما شمساً كاملة"؟.
يخبرنا هاشم صالح أيضا عن بيترارك: "إن بيترارك شخصية خصبة تعج بالمتناقضات: فهو موله بالماضي والحاضر، بالوثنية والمسيحية، بالمتع الحسية والزهد الناسك، بالشعر والنثر. كان شرهاً منخرطاً في شهوات هذا العالم إلى أقصى الحدود، خصوصاً في شبابه الأول، وقبل أن تصيبه الأزمة التي حولته فيما بعد إلى زاهد متوحد... و يمكن القول بأن سبب هذه الـزمة الداخلية التي هزته هزاَ هو عدم قدرته على التوفيق بين إيمانه الديني العميق و بين سلوكه في الحياة. يقول في كتاب اعترافاته السر: (لقد حاولت مرّاتٍ ومرّاتٍ أن أتخلص من سم العبودية القديم، ولكن من دون جدوى. إنه متغلغل في عروقي و دمي. و سوف أموت وأنا مثقل بالأخطاء والذنوب، إذا لم تأتي النجدة من السماء...).
في كتابه "السر" يشير بيترارك بأن الإنجازات العلمانية من غير الضرورة أن تعيق العلاقة بالإله، لقد ألهم الفلاسفة الإنسانيين لاحقاً وهو الشيء الذي أدى إلى الازدهار العقلي في عصر النهضة. لقد اتصف فكره بالذاتية أو الفردية والتي هي من الأسس الفكرية لعصر النهضة ومن بعده الحداثة، أيضا كانت من خصاصه الفكرية أنه نقل إلى الأداب الحديثة حب الوحدة والانعزالية والحنين وهي ما استمدته لاحقاً الحركة الرومانسية في آدابها.
لقد كان بيترارك من أهم الشخصيات التي عرفتها أوروبا منذ العصور الكلاسيكية، لم تشهد أوروبا مفكراَ قدر على الانتقال من مرحلة العصور الوسطى إلى مرحلة أعطت بعداً جديداً للعالم ككل، لقد كانت معرفته عميقة بالإنسان، وكان العقل هو الملهم بفكره، و يكفي أن نختتم بأنه توفي في السبعين من عمره وهو حاني الرأس على مخطوطة للشاعر الروماني فيرجل.
من قصائده:
صورة وكلمات
حيثما أدرت عينيّ المجهدتين...
كما لو أنني أريد أن أريحهما من شوقهما اللانهائي، فإنني أجد شخصاً ما يرسم صورة سيدة، وكأنه يريد لعواطفي أن تظل يانعة وخضراء.
ويبدو أنها تتنفس بأسى لطيف،
وبحنان عميق من شأنه أن يعتصر الأفئدة النبيلة،
وفي أذني بمنأى عن البصر،
يبدو لي أنني أسمع كلامها وتأوهاتها المقدسة.
الحب والحقيقة كانا معي حينما تحدثت عن الأناقات التي لا تضاهى في هذا العالم، والتي ليس ثمة حتى الآن ما يواجهها تحت النجوم.
ومثل هذه الكلمات العذبة المخلصة لم تسمع من قبل،
ولم تشاهد الشمس دموعاً جميلة إلى هذا الحد تنبثق من مثل هذه العيون الخلابة.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
مدخل إلى التنوير الأوروبي, هاشم صالح, دار الطليعة بيروت, 2005