أبو خليل القباني
التاريخ وعلم الآثار >>>> شخصيات من سورية
كيف أصبح أبو خليل القبّاني ظاهرة اجتماعية فنّية؟ وكيف جعل الجماهير تحتشد أمام باب مسرحه في طوابير طويلة قبيل ساعات من بدء العرض حاملةً معها مؤونة الانتظار ليشاهدوا مسرحيّات تروي قصصاً تشبه حالهم ، مسرحيات عن أناس باعوا أغراض بيوتهم و أملاكهم ليشاهدوا مسرحية ! واحدة من أكثر القصص طرافة تتحدث عن رجل باع قبر أبيه ليدخل المسرح ! وهناك من باع مصاغ ذهبي يعود لزوجته لحضور عرض من عروض مسرح القبّاني
أيّة حالة ساحرة خلقها ذلك الرجل في عصر لم يكن للتلفزيون أو الإعلانات وجود ولا لِمواقع التواصل الإجتماعي مكان لتتكلم عنه ولا يوتيوب ليوثّق مسرحيّاته ،كيف رددت الشفاه أغاني ابو خليل حتى وصلت لزمانِنا هذا ، وكيف حُفظت عن ظهر قلب مسرحياته ورُددت دون كلل
افتتن أبو خليل منذ طفولته بمجالس الموسيقى والغناء . يجلس أحمد آقبيق في حلقات تحفيظ القرآن في الجامع الأموي ي،لكنّه لا يكف عن الدندنة والتنغيم والنقر بأطراف اصابعه وفي رأسه تتزاحم الألحان حتى أغضب شيخه فما كان منه إلّا أن شكاه إلى والده فالذي بدوره قام بطردهِ من المنزل !
في مقهى العمارة الكبير في دمشق كان يجلس ليراقب الكراكوزاتي وهو يروي قصص الزير وعنترة وعبلة و الملك الظاهر وغيرهم من أبطال القصص التاريخية وبلغ من حبّه للموسيقا أن نافس معلمه في الغناء فتفوّق على أستاذه وطُرب الناس لغناء الفتى الشاب وصفقّوا له طويلاً
***
كفله خاله عبد الله النشواتي وعطف عليه ووكله ببعض الأعمال فاستطاع أن يشتري بما جمع من أموال يسيرة قبّان اشتغل به في سوق البزورية ليرافقه الأسم كشهرة له ما تبقى من سني حياته ويصبح بذلك القبّاني ..
أبي خليل القباني في عمر الثانية عشر
كانت مسرحيته الأولى "ناكر جميل" حجر الأساس في المسرح السوري ،ليخرج بعدها إلى الناس بمسرحية" وضّاح"التي يقال أنّه كتبها في ثلاثة أيام وقدّمها في باب الجابية..فحازت على إعجاب منقطع النظير دفعت الوالي إلى تكليف أبي خليل القباني بتأليف فرقة للتمثيل .
في حديقة تدعى" جنينة الأفندي" في باب توما قدّم عرضه الأولى مسرحية "عائدة" المترجمة عن الإيطالية والتي وضع ألحانها الإيطالي فيردي وبناء على طلب من الخديوي اسماعيل مُثلت في القاهرة بمناسبة افتتاح قناة السويس
دفع هذا النجاح بأبو خليل إلى أن يبيع حصّته من أرضه في جديدة عرطوز وحصته من أملاكه في دمشق مع قبّانه لإنشاء مسرحه الخاص .
***
تخيّلو معي المشهد..على دكك خشبية ومقاعد بسيطة أُعدّت على عجل يجلس الجمهور أمام خشبة المسرح ليشارك الفرقة في التمثيل والتأليف ليصبح المؤلف هو المشاهد والمشاهد هو الممثل وتُخلق حالة فريدة من نوعها لم تكن لتوجد إلا على مسرح أبي خليل القباني
الذي لم يكتف بإمتاع جمهوره وإضحاكه بل ساهم في زيادةالوعي تدريجياً بين الجماهير الغفيرة الأمر الذي لم يرق للكثير فرُمي القباني بتهمة "البدعة"واتُهم بأنّه ينزع عن الشخصيات قدسيتها فزلّة الممثل يمكن أن تجعل الملك سخيفاً والأمير مضحكاً وهكذا جاء الأمر من السلطان عبد الحميد بإغلاق مسرح القباني ومن ثم أُحرق بكامله . فما كان منه إلى أن ذهب إلى مصر وقد سبقته شهرته إلى هناك..ذلك السوريّ العبقري(كوميدي الشرق)عرض فنونه في الاسكندرية والقاهرة وقدم على مسرح دار الأوبرا عروضه و بلغت شهرته وتأثيره حداً دفعت بموسيقيين مشهوريين للعمل معه، حتى أن فرقة القباني وصلت إلى امريكا وعرضت هناك في جولة استمرت ستة أشهر .
ايضاً أبو خليل القباني ابتدع ما يُسمى ب المسرحية الغنائية القصيرة operette في الوطن العربي و التي لم تظهر إلّا لاحقاً بعد عقود متجليّة في مسرح الرحابنة الغنائيّة
تجلّت موهبته في إيجاد حلول لكل العقبات التي واجهته واحد منها غياب عنصر المرأة على مسرحه فعوّض ذلك باداء محكم لفتيان أتقنوا تمثيل دور النساء
كيف استطاع هذا السوريّ بإمكانياته البسيطة المتواضعة في زمن كانت سوريّا ترزح تحت الاحتلال العثماني باستحضار كل عناصر المسرح بهذا الإتقان ! وكيف استطاع أن يُلم بفنون الديكور والموسيقا وكيف تعامل مع نصوصه بين نصوص مترجمة وأخرى مُستقاة من التراث الشعبي،حتى أنّه قدّم ما يدعى بالفن الإيمائي (البانتوميم)
لاحقاً كان نجاح القبّاني في مصر مدعاة للغيرة والحسد فأُحرق مسرحه هناك ليعود إلى دمشق مسقط رأسه وفنّه العظيم .
***
ما يزيد عن مئة سنة مرّت على رحيل القبّاني رائد المسرح ..لعلّنا كلّما مررنا بقرب مسرح القبّاني في قلب دمشق نبتسم لذكرى هذا المبدع العبقري أبو خليل القبّاني وندندن بصوت خافت ..يا مال الشام يلّا يمالي ..طال المطال ياحلوة تعالي .