السّاعات الضّوئيّة: دقّة أكبر لقياس الوقت وخطوة نحو إعادة تعريف الثّانية.
الفيزياء والفلك >>>> فيزياء
إنّ الحصولَ على نظامِ حفظِ توقيتٍ أكثرُ دقّةً من النّظامِ الحاليّ سيسمحُ للشّبكاتِ الماليّةِ حول العالمِ أن تعالجَ عدداً أكبرَ من المعاملاتِ الماليّة في وقتٍ أقصر، كما أنّها ستتيحُ لأنظمة GPS وأنظمةِ الملاحةِ المعتمدةِ على الأقمارِ الصّناعيةِ أن توفّر معلوماتٍ أكثرُ دقةً حولَ تحديدِ المواقعِ.
قدّم مجموعةٌ من الباحثينَ طريقةً جديدةً لاستخدامِ السّاعات الضّوئيّةِ لتعطيَ توقيتاً أكثرَ دقةً ممّا تمنحهُ السّاعاتُ الذّرّيّة التّقليديّة المُستخدمةِ اليوم، ونشروا ورقةً بحثيّةً في مجلة "Optica" المتخصّصةِ بأبحاثِ البصرياتِ والضّوئيات.
قبل أن نتعرّف على الساعات الذرّية الضوئية، دعونا نتعرّف إلى فكرة عمل الساعات الذرّية والطريقة المتّبعة لتعريف الثانية.
ما هي الثّانية؟
تعملُ جميع السّاعات وفقاً للمبدأ ذاته؛ وهو إحصاءُ عدد مراتِ تكرارِ حدثٍ معيّن بتواترٍ ثابت. ويختلف نوعُ السّاعة باختلافِ الحدثِ المتكرّر المُقاسِ؛ فمثلاً في السّاعة ذات الرّقّاص يُعتبر تأرجحُ الرّقّاصِ ذهاباً وإياباً هو الحدثُ المتكرّرُ الذي يُقدّرُ الوقت من خلاله، ويمكنُ أن نضبطَ الرّقّاص بحيث يُتمّ دورةً كاملةً (ذهاباً وإياباً) كلّ ثانية، وبذلك نكونُ قد حصلنا على طريقةِ يمكنُ من خلالها قياسُ الوقتِ بدقّةٍ تصلُ إلى ثانيةٍ واحدة. إلّا أن القياسَ لن يكون دقيقاً، فأيّ اهتزازٍ أو تحريكٍ للرّقّاص سيؤثّرُ على دورته وبالتّالي دقّة قياسه للزّمن.
ينطبقُ المبدأ ذاته على السّاعات الذّرّيّة، إلا أنّ الحدث المتكرّر في هذه الحالةِ هو اهتزازُ ذرّةِ السيزيوم بين مستويين محدّدين من مستويات الطّاقة، وبناءً على ذلك وضع العلماءُ تعريفاً للثّانية في العام 1967 ضمن النّظام الدّوليّ للواحدات، واستناداً لهذا النّظامِ فإنّ الثّانية هي الزّمن الذي تستغرقهُ ذرّة السيزيوم لإتمام 9،192،631،770 دورةٍ بين مستويينِ محدّدين من مستوياتِ الطّاقة، وتقعُ هذه الاهتزازاتُ في نطاق تواترِ الأمواجِ الميكرويّة، لذا تُسمّى بالسّاعات الذرّية الميكرويّة "Atomic Microwave Clocks".
تتميّز السّاعات الذّرّيّة الميكرويّةُ بدقّةٍ عاليةٍ جداً، فالاهتزاز الطّبيعيّ لذرّات السيزيوم لا يختلفُ من ذرّةٍ إلى أخرى؛ أي أنّه يتميّز بالثّبات. وبالرّغم من ذلك يوجدُ حدٌّ أعلى لدقّة هذه السّاعات. فأفضلُ السّاعات الذّرّيّة الميكرويّة تُنتجُ خطأً في القياسِ يصلُ إلى 1 نانوثانية كلّ شهر ( 1 نانو ثانية = جزء من مليار جزء من الثّانية) وهذا ما دفع العلماءُ إلى مزيدٍ من البحثِ لإيجادِ طريقةٍ لزيادةِ الدّقة.
أثبتت طريقةُ عملِ السّاعاتِ الذّرّيّة الضّوئيّة أنّها أكثرُ دقّةً، فهي تعملُ بطريقةٍ مشابهةٍ للسّاعات الميكرويّة إلّا أنّ ذرّاتها أو أيوناتها تهتزُّ بتواترٍ أعلى بحوالي 100،000 مرّة من تواتر اهتزاز ذرّاتِ السّاعات الميكرويّة، لذا فهي تقعُ في المجال المرئيّ من الطّيف الكهرطيسيّ، ومن هنا جاءت تسميةُ السّاعاتِ الذّرّيّة الضّوئية "Optical Atomic Clocks".
التّواترُ الأكبرُ الّذي تتميّزُ به السّاعاتُ الضّوئيّة يعني أنّ السّاعة "تتكّ" بشكلٍ أسرع، وبالتّالي ستكونُ دقّتها أكبرُ من السّاعات الميكرويّة.
لكنّ مشكلةً تواجهُ السّاعات الضّوئيّةِ تتمثّل بوجودِ وقتٍ ضائعٍ كبيرٍ نتيجةَ التّعقيدِ التّقنيّ الّذي تتميّز به، وقد حالَ هذا الأمرُ دون اعتمادِ السّاعاتِ الضّوئيّة كمرجعٍ أساسيٍّ لقياسِ الوقتِ وضبطِ معيارٍ جديدٍ لتعريفِ الثّانية.
جعلُ السّاعات الضّوئيّة عمليّةً:
يقدّمُ البحثُ الجديدُ حلّاً قد يساعدُ على التّغلّب على هذه المشكلةِ واعتمادِ السّاعاتِ الضّوئيّة. يعلّق "Christian Grebing" أحدُ أعضاءِ الفريق البحثي : "لقد أظهرنا أنّه حتّى بوجود مشكلات ضياعِ الوقتِ الّذي يواجهُ السّاعات الضّوئيّة، فمن الممكنِ أن تساهمَ في تطويرِ معاييرِ ضبط الوقت... لقد تمكنّا من تحقيق أداءٍ أفضلَ مقارنةً بأداءِ أفضلِ السّاعاتِ الميكرويّة، والتي ثبتَ أنّها أقلّ وثوقيّة، وبالتّالي أقلّ ملائمةً لتنفيذِ مقياسٍ زمنيّ عمليّ"
لحلّ مشكلةِ ضياعِ الوقتِ في السّاعاتِ الضّوئيّة قامَ الفريقُ بدمجِ نظامٍ مكوّنٍ من ساعةٍ ضوئيّة تعمل بذرات السترونشيوم مع ميزر "Maser" (وهو جهازٌ يعملُ بنفسِ طريقةِ عملِ جهازِ الليزرِ ولكن في نطاقِ الأشعّةِ الميكرويّة). تقومُ الفكرةُ على استخدام الميزر كمعيارٍ موثوقٍ ذو دقّةٍ محدودةٍ يقومُ بسدِّ الفجوةِ ضياعِ الوقتِ في السّاعات الضّوئيّة. وللتّوفيقِ بين التّواتر الضّوئيّ الّذي تعملُ بهِ السّاعاتُ الضّوئيّةُ والتّواترُ الميكرويّ الّذي يعملُ به الميزر، قامَ العلماءُ باستخدامِ ما يُعرفُ بمشطِ التّواترات الضّوئيّة " Optical Frequency Comb"؛ وهو نظامٌ ضوئيٌّ يقومُ بتقسيمِ تواترِ الضّوءِ إلى تواتراتٍ منفصلةٍ بحيثُ يكونُ الفرقُ بين كل تواترينٍ متساوٍ، وبالتّالي فهو يعملُ كمسطرةٍ ضوئيّةٍ يُمكنُ استخدامها لقياسِ تواترٍ قادمٍ من مصدرٍ آخرَ وضبطه.
يقول غريبنغ : " لقد قمنا بمقارنةٍ بين الميزر الّذي يعملُ بشكلٍ مستمرٍّ والسّاعة الضّوئيّة، وقمنا بتصحيحِ قياساتِ الميزرِ من خلال المعلوماتِ الواردةِ من السّاعة الضّوئيّة، وعندما تتوقّف السّاعةُ الضّوئيّة فإن الميزر سيستمر بالعمل دون تصحيح".
تمكّن الباحثون من تشغيلِ الميزر والسّاعة الضّوئيّة لمدةِ 25 يوماً، وقد عملت السّاعةُ الضّوئيّةُ نصفَ هذه المدّة تقريباً. وبالرّغم من توقّف السّاعةِ الضّوئيّة لفتراتٍ تتراوحُ بين الدّقائقِ إلى يومين، إلا أنّ الباحثين استطاعوا قياسَ الوقتِ بدقّةٍ عاليةٍ وبخطأ يصلُ إلى 0.2 نانوثانية خلال 25 يوم.
إعادة تعريفِ الثّانية:
إنّ إعادة تعريفِ الثّانيةِ بالاعتمادِ على السّاعاتِ الضّوئيّة كبديلٍ للسّاعات الميكرويّة لا يتطلّبُ أن تكونَ السّاعات الضّوئيّة عمليّةً فحسب، بل يتطلّب كذلك مقارنةَ قياساتها مع تعريفِ الثّانية وفقاً للنّظامِ الدّولي للواحدات، والذي يعتمدُ على السّاعات الميكرويّة. لذا قامَ الباحثونَ بمقارنةِ ساعتهم الضّوئيّة بساعتين ميكرويّتين موجودتين في معهد المقاييسِ الوطنيّ الألمانيّ (PTB) ، وقد ساهم استخدام الميزرِ في تخفيضِ الشّكوك الإحصائيّة للقياساتِ بشكلٍ كبيرٍ، ممّا مكّن الباحثين من قياسِ التواترِ المحدّد لاهتزازات ذرّة السترونشيوم بأكبرِ دقّةٍ على الإطلاق. وعدمُ اليقينِ النسبيّ في القياسِ تكافئ فقدان 100 ثانيةٍ خلال عمر الكون؛ أي كل 14 مليار سنة!
على الرّغمِ من أنّ السّاعات الضّوئيّة توفّر قياساً أدقّ من السّاعات الميكرويّة بمئةِ مرّة، إلّا أنّ غريبينج يعتقد أنّ إعادة تعريفِ الثّانية بشكلٍ جدّيٍّ قد يحتاجُ لعقدٍ من الزّمن، ومن المنطقيّ التّمهّلُ قبل إعادةِ تعريفِ الثّانية حتى نعلمَ أيٌّ من الأنواعِ المختلفةِ من السّاعات الضّوئيّة سيكونُ الأفضلُ في توفير قياسٍ موثوقٍ للوقت، وفي ظلّ التّطوّر البطيء لتقنيّةِ السّاعات الضّوئيّة، فإنّ حدَّ الدّقّة الذي ستوفّره هذه السّاعاتُ لا يزالُ مجهولاً.
يقول غريبنغ: "نريدُ أن نطوّر البنيةَ التّحتيّة لمقاييس الوقتِ حول العالمِ من خلالِ تطويرِ ساعاتٍ أفضلَ، ودمجها بالبنيةِ التّحتيّة لمقاييس الوقت... ما قمنا بعملهِ هو خطوةٌ أولى نحو تحسينٍ عالميٍّ لمقاييس الوقت"
المصادر: هنا
هنا