ليثولوجيكا.. ظاهرة طرف اللسان
التعليم واللغات >>>> اللغويات
أحياناً، يُستعصى علينا تكوينُ أو إكمالُ جملةٍ بسبب حالةٍ من الجمودِ الذهني المُزعج. وعندما نصادفُ موقفاً كهذا، فإننا غالباً ما نلجأ إلى استخدامِ كلماتٍ بديلةٍ، أحياناً تكونُ دونَ معنىً، لمجردِ ملء الفراغ لا أكثر، و أحياناً أُخرى قد نأتي بكلماتٍ غير موجودة. يشيرُ العددُ الهائلُ للكلماتِ المالئة للفراغ إلى أنّ هناك ميلاً بشرياً لنسيان أسماءِ الأشياءِ أو الأشخاص و يسلطُ الضوءَ على مدى شيوعِ ظاهرة "على طرف لساني".
"ليثولوجيكا" هو الاسمُ العلميُ لهذا النمطِ من النسيان.
وكغيرهِ من المصطلحاتِ الانكليزيةِ المرتبطةِ بالعقل، تعدُ اليثولوجيكا مصطلحاً معاصراً تم اشتقاقهُ من الإغريقيةِ الكلاسيكيةِ، و هم مشتقٌ من كلمتين: ليثه (lethe) و تعني النسيان، و لوجوس (logos) و تعني الكلمة. وعُرف ليثه في الأساطيرِ الإغريقيةِ بكونه واحداً من أنهارِ العالمِ السفلي الخمس. وهو النهرُ الذي تشربُ منهُ أرواحُ الموتى لنسيانِ الذكريات الدنيوية.
يعود تركيبُ هذا المصطلحِ إلى عالمِ النفسِ السويسريِ الشهير كارل يونغ (1875-1961) في بداية القرن العشرين، غير أنَ أولَ تدوينٍ لهُ قد وُجدَ في معجمِ دورلاند الأميركي الطبي المصور، عام 1915، حيثُ تم تعريفُ الليثولوجيكا على أنها "عدمُ القدرةِ على تذكرِ الكلمةِ المناسبةِ. وبغضِ النظرِ عن أصلِ الاشتقاق، فإنَ الدراساتِ التي قامَ بها يونغ في مجالِ اللاوعي و الذاكرةِ و النسيان، و الأساطير الإغريقية، لها أثرٌ كبيرٌ في فهمنا الحاليِ لكيفيةِ عملِ الذاكرةِ في الدماغ.
ويدركُ معظمنا أن الدماغَ لا يعملُ كالحاسوبِ، حيثُ يتمُ تخزينُ البياناتِ بشكلٍ مرتبٍ و استعادتها بضغطةِ زر. يشيرُ عالمُ النفسِ توم ستافورد إلى أن "ذاكرتنا مدهشةٌ، و لكنها تستجيبُ بحسبِ ارتباطِ المعلومةِ بمعلوماتٍ أُخرى و ليسَ بحسبِ درجةِ الحاجةِ إلى تذكرها." و هذا يعني أن ذاكرتنا تعملُ بأسلوبٍ شبكيٍ، فكلما ارتبطتِ الكلمةُ بعددٍ أكبرَ من المعلوماتِ كلما سَهُلُ علينا تذكرها.
إن تذكرَ كلَ كلمةٍ في لغتنا، أو في أي لغةٍ نتكلمها، هو أمرٌ صعبٌ حتماً. فعلى سبيل المثال، نجدُ أن الفردَ البالغَ لا يستخدمُ عملياً إلا خمسينَ ألف كلمة أو أكثرَ بقليلٍ، سواءً في الحديث أو الكتابة، في حينِ أن قاموسَ أوكسفورد الانكليزي يحتوي على ستمائة ألف كلمة، و هذا العدد لا يُمثلُ إجماليَ عددِ الكلماتِ الموجودةِ في اللغةِ الإنكليزية. ومن المؤكد أن الفردَ يفهمُ عدداً أكبرَ بكثيرٍ من الكلماتِ التي يستخدمها يومياً. إن هذه المفرداتِ السلبيةِ (غيرَ المستخدمةِ) هي من يضعنا في مأزق طرف اللسان. فالكلماتُ نادرةُ الاستخدامِ، بما فيها أسماءَ العلمِ، هي الكلماتُ التي ننساها في معظم المواقفِ، و ذلك لأن عقولنا تعملُ بشكلٍ شبكيٍ، كما سبقَ و ذكرنا، و تستند إلى ارتباط عددٍ كبيرٍ من المعلوماتِ ببعضها البعض، و بالتالي، فإن قدرتنا على التذكرِ مرتبطةٌ بعددِ الصلاتِ بين تلكَ الكلماتِ و بينَ معلوماتٍ أخرى موجودة. ونتيجةً لذلك، فإنَ آلاف الكلماتِ قليلةَ الاستخدامِ و المخزنةَ في عقولنا قد تُصبحُ صعبةَ التذكرِ إذا لم نربطها بالقدرِ الكافي بغيرها من المعلومات، الأمرُ الذي من شأنهِ أن يجعلها سهلةَ التذكر. ومن الجديرِ بالذكرِ أن الليثولوجيكا هي نسيانُ الكلمةِ و أثرُ وجودها في ذاكرتنا في آنٍ معاً. فنسيانُ كلمةٍ ما يعني بالضرورةِ أنها كانت موجودةً مسبقاً بين طياتِ الذاكرة.
ووفقاً لبعضِ الدراساتِ الرائدةِ التي تناولت هذهِ الظاهرة (براون و ماك نيل 1966)، فإنَ ظاهرةَ طرفِ اللسانِ تشتملُ على جانبين أو مرحلتين؛ مرحلةً أساسيةً أو إدراكيةً تتمثلُ في إدراكنا لفقدِ الكلمةِ و محاولةِ استعادتها من الذاكرة، و مرحلةً متقدمةً و هي مرحلةُ إدراكِ الإدراكِ و تتمثلُ في أساليِب المحاكمةِ العقليةِ و الآلياتِ المعتمدةِ أو الحوارِ الداخلي الذي نلجأ إليه أثناءَ تلكَ المحاولة. و قد استنتجَ الباحثونَ أن دراسةَ هذهِ الظاهرةِ تمنحنا فهماً أعمقَ لعلمِ النفسِ الإدراكي و نظرياتِ الذاكرة و تكوينِ اللغة. كما أنها تساعدنا على إيجادِ حلولٍ عمليةٍ لصعوباتِ التعلمِ و التغلبِ على مشاكلِ الذاكرةِ و تشخيصِ بعضِ الأمراضِ العصبية.
و تناولت العديدُ من الدراساتِ العواملَ المؤثرةَ التي من شأنها زيادةُ أو تقليلُ حدوثِ حالاتِ طرف اللسان. نقدمُ لكم هنا ملخصاً عنها:
1. تأثيرُ ثنائيةِ اللغةِ:
هناك فرقٌ كبيرٌ في عددِ حالاتِ طرفِ اللسانِ بين الأفرادِ أحاديي اللغةِ و أقرانهمْ من ثنائيي اللغة. إن الأرقامَ متقاربةٌ فيما يخصُ أسماءَ العلمِ ، لكن في حالةِ الكلماتِ العاديةِ وُجدَ أن ثنائيو اللغةِ يقعونَ في مأزقِ طرفِ اللسانِ بنسبةِ الضعفِ أو أكثر. و خصوصاً في اللغةِ الأقلِ استخداماً. فالأشخاص الذينَ يتحدثونَ أكثر من لغةٍ يقومونَ باستخدامِ عددٍ مضاعفٍ من آلياتِ تفعيلِ و تعطيلِ اللغة، و هذا عبءٌ لا يواجههً أحاديو اللغة.
2. تأثير العقاقير:
أثبتتِ الدراساتُ أن العقاقيرَ المستخدمةَ عادةً في علاجِ اضطراباتِ النومِ و التوترِ من شأنها زيادةُ حالاتِ طرفِ اللسانِ و تؤثرُ أيضاً على مدى صحةِ الكلمةِ المستعادة. أي أنَ الشخصَ المتعاطي لتلكَ العقاقيرِ يستذكرُ كلمةً غير مناسبةٍ أو غير صحيحة.
3. تأثير الكافيين:
إن للكافيين أثراً إيجابياً في هذه الحالات. حيثُ أثبتتِ الدراساتُ أن تناولَ فنجانينِ من القهوةِ يومياً يحسّنُ أداءَ الذاكرةِ و يقللُ من حدوثِ حالاتِ طرف اللسان.
4. تأثيرُ المشاعرِ:
لقد وثقتِ الدراساتُ تأثيرَ الحالةِ الشعوريةِ على الذاكرة. فمن خلالِ التجاربِ التي خضعَ لها بعضُ الأفراد، تبينَ أن حالاتِ طرفِ اللسانِ تترافقُ عادةً مع حالاتٍ شعوريةٍ سلبيةٍ (مثل الحزن أو الخوف) و أنَ الأسئلة َالمثيرةَ للمشاعرِ تؤدي إلى حدوثِ حالاتِ طرفِ اللسان بنسبةٍ أكبر.
5. تأثير الاضطراباتِ النفسيةِ و العقلية:
تؤدي اضطراباتٌ مثلَ حبسةِ التسميةِ و صعوباتِ القراءةِ والكتابةِ إلى الوقوعِ بنسبةٍ كبيرةٍ جداً من حالاتِ طرفِ اللسان.
6. تأثير التقدم في العمر:
يٌعتبر الضعف الملحوظ في أداء الذاكرة واحداً من أهم السمات العامةِ للتقدم في السنِ. و بذلك يؤدي إلى حدوثِ حالاتِ طرف اللسان بنسبةٍ أكبر.
وفي جميعِ الأحوالِ، تعددت المؤثراتُ و النسيانُ واحد. في الحقيقة، قد تبدو ظاهرةُ طرفِ اللسانِ كمشكلةٍ أو كخللٍ، لكنها تعلّمنا الكثيرَ أيضاً. فهي تعلمنا التأقلم أولاً ؛ فعندما نواجهُ صعوبةً في استعادةِ الكلماتِ نطورُ آلياتٍ تساعدنا على التذكرِ أكثر و نتبنى تقنياتٍ في الحفظ تساعدنا على الحدِ من تكرار هذه المواقف. وتشير دراسة (بنجامين، بيورك، شوارتز 1998) إلى أن المصطلحاتِ التي نجدُ صعوبةَ في استعادتها ستثبتُ في ذاكرتنا بشكلٍ أقوى بعدَ الاستعادة.
ولتسليطِ الضوءِ على هذه الظاهرةِ من زاويةٍ مختلفةٍ، قامت كارن إيموري (مديرة مخبرِ اللغةِ و علم الأعصاب ِالإدراكي في جامعةِ سان دييغو الأميركية) بإجراءِ دراسةٍ على مجموعةٍ من الأفرادِ الصُّم الذين يستخدمونَ لغةَ الإشارةِ الأميركية لمعرفةِ فيما إذا كانوا يعانونَ من هذهِ الحالاتِ ذاتها (و هنا سُميتِ الحالةُ بظاهرة رأسِ الإصبع). ووفقاً لتوقعاتِ الباحثةِ فقد أوضحت النتائجُ مرورَ الأشخاصِ الصُّم بمواقفٍ يجدونَ فيها صعوبةً في استعادةِ الكلمات. و يعبرونً عن ذلكً بإشارةِ أول حرفٍ من الكلمة.
ليثولوجيكا، أو ما يسمى بمتلازمةِ طرفِ اللسان، هي الوصفُ الدقيقُ لشعورنا بأنَ الكلمةَ هنا (في فمنا، أو على رأسِ إصبعنا) لكنها لسببٍ أو لآخر ترفضُ أن تخرجَ أو تُقال. في موقف كهذا تحاولُ الدخولَ إلى ذاكرتكَ و لكنكَ تشعرُ بأنَ دماغكَ قد أغلقَ بابهُ و علقَ عليهِ لافتةَ "سنعودُ بعد قليل"...!!!!
المصادر:
هنا
هنا
هنا