زيارة إلى المتحف الوطني في لندن، "الدفن" The Entombment، لوحة مايكل آنجلو المثيرة للجدل
الفنون البصرية >>>> زيارة إلى متحف الفن
إن أول ما يشد انتباه الناظر إلى هذه اللوحة هي حقيقة أنها غير منهيّة الرسم. حيث أن أقساماً كبيرة من اللوحة تبدو فارغة تماماً حتى من أي رسم أوليّ. و لكن هذه الحقيقة ليست إلا جزءاً نبتدي به الحديث عن الغموض الذي يلّف هذا العمل الفنّي. من أين جاءت هذه اللوحة؟ ولمَ لم يتمّ إنهاء رسمها؟ و لمَ يبدو بعض الأشخاص الموجودين فيها غريبين جداً؟ أحقاً مايكل انجلو هو من رسمها؟ في هذه المقالة سنحاول معرفة سبب كون هذه اللوحة مصدراً للكثير من التساؤلات. كما سنلقي الضوء على الأجوبة المحتملة لهذه التساؤلات وعلى الأشياء الغامضة فيها التي قد تبقى غير قابلة للتفسير.
تعتبر حادثة دفن المسيح من أهم الأحداث في تقاليد الديانة المسيحية˛ و لذلك فقد يكون من المفاجئ للبعض أن يلِّف الغموض هوية بضع الشخصيات الموجودة في اللوحة أو حتى جنسهم. قد يبدو أن الشخص الذي يحمل المسيح من الجهة اليسارية ليس إلا القديس يوحنا (المعزى إليه اسم إنجيل يوحنا في العهد الجديد) و ذلك لثوبه الأحمر الطويل وشعره. وهذا هو أكثر ما يميزه عادة عند تصويره في الأيقونات و اللوحات. و من المعتقد أن الأشخاص الآخرين هم غالباً نيقوديموس Nicodemus (عضو المجلس اليهودي المذكور في انجيل يوحنا) و يوسف الرامي Joseph of Arimathea˛ الذي أعطى قبراً كان قد اشتراه لنفسه ليُدفن به المسيح. و يُعتقد أيضاً أن الشخصية الجاثية في الجانب الأيسر من اللوحة هي مريم المجدلية Mary Magdalene˛ وأنّ المرأة في الجانب اليميني العلوي هي التقيّة مريم سالومة (من أتباع يسوع المسيح والمذكورة في جميع الأناجيل وهي والدة اثنين من تلاميذ المسيح الاثني عشر). كما تُظهر اللوحة في زاويتها اليمينية السفلية رسماً أولياً لمريم العذراء.
لم يُعرف الكثير عن أصل هذه اللوحة لسنوات عديدة إلى أن تمّ في عام 1971 العثور على طرف خيط ٍ من خلال دليل وثائقي. فقد تبيّن أنه في عام 1500 تمّ دفع مبلغٍ من المال لمايكل أنجلو ليقوم برسم أيقونة لكنيسة القديس أغوسطينوس في روما. لم يقم مايكل أنجلو بتسليم أيّ لوحة من هذا النوع للكنيسة و قام لاحقاً بإعادة المال المدفوع له. و يُعتقد أن هذه المهمة التي لم تُنجز هي لوحة "الدفن" المعروضة الآن في المتحف الوطني في لندن.
من المتفق عليه بشكل عام هو أن هذه اللوحة هي فعلاً من أعمال مايكل أنجلو و ذلك للصلة الموجودة بين شخصيات هذه اللوحة مع أعماله الأخرى في تلك الفترة. فعلى سبيل المثال˛ تبدو المرأة الجاثية رافعة يدها ومتفكرة في أمرٍ ما والتي تظهر أيضاً في لوحة لمايكل أنجلو في متحف اللوفر حاملة تاج الأشواك الذي صُلِب المسيح مرتدياً إياه. تعتبر المرأة في لوحة اللوفر رسم تحضيري أوضح عن امرأة لوحة متحف لندن الوطني.
لوحة مايكل أنجلو "الفتاة العارية الجاثية" Kneeling nude girl المرسومة بالطبشور و الحبر. متحف اللوفر˛ باريس
Image: https://s-media-cache-ak0.pinimg.com/236x/55/df/42/55df421eadff1ea6ba10fb2c0d4b9931.jpg
لهذا الإدعاء دليل قوي˛ حيث تتطابق وضعية المرأة في هذا الرسم بشكل كبير مع المرأة الجاثية في لوحة "الدفن" (على الرغم من وجود اختلاف في وضعية الأرجل). إضافة إلى ذلك˛ هناك رابط واضح بين موضوعيّ اللوحتين. في حين أن لوحة "الدفن" هي حول دفن المسيح بعد صلبه˛ تظهر الفتاة في هذه اللوحة حاملة لتاج الأشواك الذي أحاط رأس المسيح عند صلبه.
ما يزيد من غموض هذه اللوحة هو التعابير المرتسمة على وجوه الأشخاص في هذه اللوحة˛ أو- إذا صح القول- انعدام هذه التعابير. في حين تظهر التقية مريم سالومة في اليمين العلوي حزينةً بعض الشيء˛ يظهر الآخرون ملامح وجهٍ إما طبيعية أو منغمسةً بالتفكر أو حتى ضجرة. و من الممكن اعتبار هذا التكتم والغموض في إظهار المشاعر من خلال تعابير الوجوه على أنه فضيلة و ليس عيباً في اللوحة الأمر الذي لايزيدها إلا غموضاً.
يعتقد بعض المحلّلين أن هذا الرسم إشكالي وأن إشكاليته قد تكون هي ما دعا مايكل أنجلو أن يقرّر عدم إكماله. قام مايكل أنجلو باعتقادهم برسم المسيح بالشكل الأمثل واصفين الرسم بالأناقة و بأن الرسام أضفى قوة شعورٍ خارجةً عن حدود الوصف. فحسب رؤيتهم كان من الصعب على مايكل أنجلو أن يقوم بإنهاء اللوحة دون أن يجعل تركيزه الكلّيّ على رسم ذلك الجسد الجليل فقط. و يبدو بوضوح أن ما قام به مايكل أنجلو من محاولات لإيجاد نظام تناسق بين الشخصيات الأخرى في اللوحة لم يكن ناجحاً مما جعله يقرر عدم إتمام الرسم بدلاً من الاستمرار في محاولة إنجاح ما لا يمكن إنجاحه.
على الرغم من الدلائل حول نسب هذه اللوحة لأعمال مايكل أنجلو˛ إلا أن العديد من الباحثين لا يزالون يرفعون إشارات الاستفهام تارة ويدحضون الدلائل المقدمة تارة أخرى. وكما الكثير من لوحات الرسامين العظماء˛ لا تزال هذه اللوحة محط التمحيص والتدقيق والتشكيك والإثبات. لكن ممالاشك فيه أن الغموض الذي يكتنف هذه اللوحة قد جعلها من أهم الأعمال الفنية المعروضة في كبريات متاحف العالم كمتحف لندن الوطني.
توصيف اللوحة:
الفنان: مايكل إنجلو
تاريخ الرسم: حوالي 1-1500 م
زيت على خشب
أبعاد اللوحة: 161.7 * 149.9 سم
مكان اللوحة في المعرض: الحجرة رقم 8
المصادر:
هنا
هنا