حكواتي دِمشق رشيد الحلّاق..وداعاً
الفنون البصرية >>>> فنان سوري
الحديثُ عن رجلٍ يدعى رشيد حلّاق، يستوجبُ استحضار المكان، ولأنّ المكانَ يعبقُ بتاريخٍ يُذيبُ القلبَ شغفاً وشوقاً له، تتسارعُ الصورُ من خبايا الذاكرة لتطلقَ العنانَ لرحلةٍ من ساحةِ الجامعِ الأموي مروراً بالسوقِ العتيقة، نزولاً على الدرجِ الحجريّ قربَ البابِ الخلفيّ للجامع، ثمانُ خطواتٍ بالتمام والكمال، تدلفُ بعدها إلى مقهى صغيرٍ بهالةٍ من السحرِ تسيطرُ عليه..إنّه المقهى الدمشقيُّ الأعرق.. "النوفرة".. بعمرٍ يزيدُ عن خمسمئة عام، حافظ هذا المكانُ على أصالتِه وتراثِه، ولم يحاول أن يجدّد حلَّته، حالُه حالَ بقيةِ مقاهي المنطقة التي امتدت إليها يدُ الحداثة.
الكراسي والطاولات لم تختلف منذ عشراتِ السنين، حتى جدرانُ المقهى بقيت على ما هي عليه، بلوحاتِها التي تحملُ غباراً عبقاً برائحةٍ غامضة. ترمي ببصرِك في أقصى المكان، هناك في الوسط، تتموضعُ دّكةٌ مرتفعةٌ ليست إلا كرسياً من الخشبِ المحفور، يشبهُ عرشاً لا يعتليهِ إلّا ملكٌ واحدٌ أتقنَ عن أبيه فنّ إمتاعِ الناس، منذ عشرين عاماً أو يزيد، إنّه رشيد حلّاق، "أبو شادي"، الحكواتي الأشهرُ في دِمشق.
في عام 1990 نفخَ رشيد"أبو شادي" الرّوحَ في مهنةِ الحكواتي، بعد أن خطفَتها وسائلُ التسليةِ الحديثةِ من تلفازٍ وإنترنت فباتت المهنةُ نسياً منسياً، حاملاً على عاتقهِ إحياءَ المهنةِ فكانَ مقرّهُ الرئيسي"مقهى النوفرة".
لمدةٍ تقاربُ الربع قرن، كان "أبوشادي" الحكواتيَّ الوحيدَ في دمشق، فبات جزءاً لا يتجزأُ من المقهى العريق. في الساعة الثامنة مساءاً، يدخلُ "أبو شادي" بزيّه الشامي، السروالّ الفضفاض والحزامُ العريض والطربوشُ الأحمر، يعتلي الدّكةَ الموجودة تحديداً في صدرِ الجزءِ الداخلي من "القهوة". يخفتُ الكلامُويتحلّقُ المريدون وسط دخانِ النراجيل وقرقعةِ كؤوسِ الشاي وفناجينِ القهوة.
يعلو الصوتُ الأجش، صلباً قوياً جهورياً: "يا سادة يا كرام"، فيعدّلُ الجميع من جلسته، يصغون بانتباهٍ إلى قصصِ الظاهر بيبرس وبطولاتِه، عنترةَ ومحبوتِه عبلة، سيرة الزّير سالم وغيرها من حكايا مجلداتِ التراثِ التي يستخلصها "أبو شادي" ويقدّمها على طريقته.
"يا سادة يا كرام".. يلوّحُ بسيفٍ يمسكه في الهواء، أو يدقُّ الأرضَ بعصاه، يراقبُ من وراءِ نظارةِ القراءة بعينٍ خبيرةٍ العيونَ المحملقةِ فيه، يلحظُ سكناتِها، إيماءاتِها، دهشتَها، حزنَها، فرحَها،تسعفُه حينها البديهةُ بما يناسبُ المقام، فيعدّلُ من طبقةِ صوتِه، ينهضُ أو يضربُ الأرضَ بقدمه فجأة، فيجفلُ الجميع. يوصلُ السامعين إلى ذروةِ الحماسة فيجعلُ الحربَ الدائرةَ بين دفّتي الكتاب الذي يمسكُه، تدورُ على أرضِ المقهى، يشحنُ الجوَّ حماسةً، فيتقمّصُ الأدوارَ ويدعو أحدَ الجالسين لمنازلة، ليعلوَ التصفيقُ والتشجيعُ، يضفي بخلاصةِ روحهِ على الحكاية فترتدي الأسطورةُ ثوباً جديداً من صنع " أبو شادي".
يأتي روادُ المقهى في فترة أبو شادي خصّيصاً لسماعه، أو حتى مشاهدته فقط، فبعضُ السيّاح مِمّن لا يتقنون العربية، يجدون متعةً لا تضاهيها متعة في النظر إلى قسماتِ وجهِ أبو شادي ومتابعةِ حركاتِه، ضحكاتِه وعبساتِه، وحين تلحظُ عينُه الخبيرةُ هؤلاء السيّاح، يدلي بعبارتٍ تدهشُهم بالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، يغمزُ بعينيه قائلاً: "..ويقول عنترُ لعبلة..أوه عبلة Ich liebe dich، فتهدرُ الضحكاتُ عالياً وطويلاً.
"أبو شادي" رشيد الحلّاق، لم ينقطع طيلةَ سنين عن المقهى، إلّا حين ألمَّ بهِ المرضُ في إحدى السنوات، فيما عدا ذلك تراهُ في النوفرة وفي فقراتٍ قدّمها في مطاعم وفنادق وخيم رمضانية دمشقية، إضافةً إلى فقراتٍ قدّم خلالها حكاياتِه في المركز الثقافي الإسباني في دمشق بدعوةٍ من إدارته.
وكأنّ مرارةَ الحربِ لم تكفينا ليأتيَ الخبرُ مفاجئاً بقسوتِه، وليخيّمَ حزنٌ ثقيلٌ مالحٌ على المقهى الدمشقي، وليرقدَ الطربوشُ الأحمرُ حزيناً إلى جانب السيفِ والعصا، الكرسيُّ الخشبيُّ يشكو غيابَ صاحبِه، الكراسي والطاولات، الصورُ الفوتوغرافية على الحائط، لوحاتُ الزّير وعنترة وعبلة، الأشياءُ كلّها تئنّ بحزن.. فـ أبو شادي..رَحَـلْ.
هو الذي عشقَ التراثَ وأحبّه، وامتهن روايته كمهنةٍ رغم أنّ عائدها الماديّ يكاد لا يذكر، وهو الذي حافظَ على موعدِ الثامنة طيلة سنواتٍ عديدة، ليمتعَ روادَ المقهى المخلصين لأرجوزاتِه، ولينفخَ الرّوحَ في مهنةِ أجدادِه بكلّ صدقٍ وصبرٍ وأناة.
عبقُ التاريخِ الجميلِ والياسمين الشاميّ الأصيل رَحَــلْ..
وبقيَ في ذاكرةِ الدمشقيين حكواتيُّ الأزمنةِ السعيدة، حكواتيُّ دِمشقَ الأول.. رشيد الحلّاق "أبو شادي".. لروحِــكَ السلام.