شفرة أوكام: أحد أهم المبادئ المنطقية وأوسعها استخداماً
الرياضيات >>>> الرياضيات
ففي علم الاقتصاد تُعتَبر شفرة أوكام واحدة من أهم المبادئ الاقتصاديّة المُعاصرة، ومن أسمائها الأخرى في هذا المجال قانون البخل أو التّوفير، إذ يقضي باستخدام أقلّ الوسائل كلفة لتحقيق غايةٍ اقتصاديّةٍ ما، وفي مجال الرّياضيات مثلاً تقضي بتفضيل أقلّ البراهين تعقيداً عند تساوي تلك البراهين بالنّتيجة ودرجة عموميتها، وفي الفيزياء والفلك تقضي بتفضيل أقلّ التّفاسير تعقيداً لظاهرة طبيعيّة ما عند وجود عدة تفاسير محتملة، ووصل حد تطبيقها كما سنرى إلى نفي وجود أحد الكينونات الفيزيائيّة وهو '' 'الأثير'' التي كان من المُعتقد وجودها أواخر القرن التّاسع عشر، كما أنّها فَصَلَت بين مجالات معرفيّة مختلفة، فبفضل هذا المبدأ فُصِل وإلى غير رجعة بين الفيزياء والميتافيزياء(*)، و كذلك الأمر بين الكيمياء والخيمياء(**).
ويُعتبر الفيلسوف الإنكليزي ويليام أوكام أوّل من صاغ هذا المبدأ عام 1285 حيث جاءت العبارة :
"Pluralitas non est ponenda sine necessitate"
وتعني باللّاتينية أنَّ التّعدديّة لا ينبغي أن تُفرض دون ضرورة، أي أنّ الأولويّة للأبسط وللأقل تكلفةً، والأقل تشعُباً بطبيعة الحال، وفي واقع الأمر لم يكن وليام أوكام أوّل من توصّل إلى هذا المبدأ، حيث استنبطه رجل دينٍ فرنسيّ واستخدمها لتفنيذ بعض الكينونات الفلسفيّة في معرِض دفاعِه عن الّلاهوت المسيحيّ في وجه الفلسفة اليونانيّة التي انتعشت مجدداً بسبب حركة التّرجمة آنذاك من اللغة العربية، حيث نفى كينونات فلسفيّة كالعقل الواعي المنسوب لأرسطو، والعقل الفاعل وكذلك حريّة الاختيار، بحجة أنّها غير ضروريّة، وكذلك فعل نيكولا دوريزم الاقتصادي الفرنسي، وغاليلو غاليلي في دفاعه عن نموذجه الفلكيّ للسّماوات وكان لنيوتن نصيبَه في استخدامها أيضاً، في تفضيل الفرضية الأبسط على الفرضيّات المُنافسة، وعُرِفت طريقة نيوتن هذه بـ ''سيف نيوتن الليزري الملتهب'' حيث يصف نيوتن ذلك بقوله:
''علينا أن نقبل فقط بالأسباب اّلتي تلزم وتكفي لتفسير جميع جوانب الظّاهرة المدروسة'' (1)
لكنّ المبدأ عُرِف باِسم أوكام ، لأنّ الأخير استخدمه على نِطاقٍ واسع وبتشدُّدٍ حتى سُميَّ بـ ''موس أوكام''.
فمثلاً اعتقد أوكام بوجوب التّخلي عن العلاقات بين الأشياء، حيث يرى أنْ لا ضرورة لمفهوم العلاقة بين شيئين كون مفهوم العلاقة لايختلف عن فعل نشوئه في الشّيء المعني، مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ السّببية، حيث لا تبدو العلاقة بين شيئين سوى إعادة ترتيب لموقع كلٍّ منهما، مع المقدرة النّفسيّة للفاعل أو المراقب على التّميز بين مراحل نشوء العلاقة بين هذين الشّيئين.(2)
وعلى الصّعيد العلميّ يمكن إعادة صياغة المبدأ على النّحو التّالي:
" إذا كان لدينا فرضيّتين متنافستين ُتعطيان التّوقعات ذاتها فعلينا أن نأخذ بالفرضيّة الأبسط "
وتُعتبر ''موس أوكام'' الأداة التي طهّرت الفيزياء من المفاهيم الميتافيزيقية، أو بكلمة أخرى فصلت بينهما إلى غير رجعة، وكذلك بين الكيمياء والخيمياء، ولا يقف الأمر عند ذلك فقط، بل بعد نشر النّسبية الخاصة لأينشتاين، وبما أنّ الأخيرة وفرضية لورانتز حول الأثير(***) تعطيان النتائج ذاتها، بالإضافة إلى الفشل في رصد الأثير في تجربة ميكلسون مورلي الشهيرة، توصّل كل من أينشتاين وبوانكاريه إلى ضرورة التّخلي عن مفهوم الأثير نهائياً وإلى غير رجعة، لأن استخدامه عقّد التّفاسير الفيزيائية المطروحة من جهة، ولغياب الأدلّة التّجريبيّة على وجوده من جهة أخرى.
نلاحظ من المثال السّابق ضرورة الاستعانة بالتّجربة، فالمنهجيّة التّجريبيّة ذاتها لا تتعارض مع مبدأ أوكام، حسب أوكام نفسه. ومن التّطبيقات الجديرة بالذّكر لمبدأ شفرة أوكام، ما صاغه فيلسوف النّسبية آرنست ماخ الذي كان له أثر ملحوظ على أينشتاين، حيث جادل أينشتاين في أنّ الزّمان والمكان ليسا كينونتين مطلقتين، فيقول ماخ في مبدأ الوضعيّة:
" لافرق بين شيء غير موجود وشيء موجود ولكن لا يمكن التّحقق منه "
وهذا ما ينطبق على مبدأ الأثير حتى قبل الفشل في رصده، ومن ناحية أخرى، يجب الحذر من استخدام هكذا مبادئ فلسفيّة في مجال العلوم التّجريبيّة، لأن ذلك قد يؤدي إلى الوقوع بالزّلل ، مثلاً أخطأ ماخ و أتباعُه حين طبّقوا مبدأ الوضعيّة على نظريّة الجزئيات، ففي ذلك العصر وبالرّغم من نجاح النّظرية الجزيئية إلا أنّه كان من المُتعذر التّحقق من وجودها تجريبياًّ، وفي وقت لاحق نشر أينشتاين ورقة بحثيّة عن الحركة البراونيّة أثبتت وجود الجزيئات وعلّق أينشتاين على ذلك لاحِقاً في مذكراته بالقول أنّ الأحكام المُسبقة الفلسفيّة من شأنها أن توقِعَ ألمَع العلماء بالزّلل في حال الاعتماد عليها، وربما يكون الاقتباس التاّلي:
"يجب أن تكون الأمور بأبسط شكل ممكن ولكن ليس الأبسط بالمطلق"
والمنسوب لأينشتاين، تعبيراً عن هذا المبدأ من وجة نظر عمليّة، وتجنباً للوقوع بالزّلل.
وأخيراً نَذْكُر - إن صحَّ التّعبير- نسخة رائد ميكانيك الكّم ، بول ديراك عن البساطة ، حيث يقول أنّ الباحث العلميّ في سعيه لإيجاد تفسيراتٍ ونماذج علميّة ، يجب أن يُراعي مُتَطلبات البساطة والجمال، الّلتين لهما في أغلب الأحيان المُتطلبات ذاتِها ، ولكن في حال التّعارض يجب تقديم الأخيرة، و ينبغي التّوضيح هنا أنّ بول ديراك حين قال الجمال فكان يقصد القدرة على التّفسير المُعمم والكامل لمختلف جوانب المسألة المطروحة، وحين قال البساطة فكان يقصد التّخلي عن كل ما لا يلزم لفعل ذلك.(3)
هامش:
(*) الميتافيزياء (الميتافيزيقيا): أو ماوراء الطّبيعة، وهو يعني الأشياء الّتي لا تخضع لـقوانين الطّبيعة، أو يمكن التّعبير عنها مجازيّاً، بأنّها الأشياء الّتي تتجاوز حدود الطّبيعة.
(**) الخيمياء: هي علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذّهب والفضة بالصّناعة، ويشرح العمل الذي يوصِل إلى ذلك ، وتلجأ الخيمياء إلى الرّؤية الوجدانية في تعليل الظّواهر، وكثيراً ما لجأ الخيميائيّون إلى تفسير الظّواهر الطّبيعية غير المعروفة لديهم على أنّها ظواهر خارقة، وترتبط بالسّحر وبما يسمى "علم الصنعة".
(***) الأثير: هي مادة، كان يُعتقد أنّها تملأ كل الفضاء الكونيّ، وفسّر العلماء وجودها بأنّ الضّوء يسير في موجات تحتاج إلى وسط ماديّ لتنتقل.ولذلك افترضوا وجود أثيرٍ حاملٍ للضّوء بوصفه مادّة تختلف عن كل المواد الأخرى، مادة لايُمكن أن تُرى أو تُحّس أو تُوزَن، كما افترضوا أن الأثير ثابت وأنّ الكرة الأرضيّة والأجسام الأخرى في الفضاء تتحرك خلاله.
المصادر:
1. هنا
2. هنا
3. هنا