تركيب اللعاب... ومفهوم جديد للتطور
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
كانَ هذا هو الدرسُ الجديدُ الذي تمَّ استخلاصُه من دراسةٍ جديدةٍ أُجريت على لعابِ العديدِ من الكائناتِ الحيةِ، منها البشرُ والغوريلَّا وأنواعٌ متعددةٌ من القرودِ، والَّتي بدورِها تُلقي نظرةً داخليةً على مفهومِ التطور.
اختبرَ هذا البحثُ مورِّثةً تُسمى (MUC7) وهي مسؤولةٌ عن إعطاءِ تعليماتِ بناءِ بروتين اللعابِ والذي يُعرَفُ ببروتين (MUC7)، يتميزُ هذا البروتين بأنَّهُ طويلٌ ورفيعٌ، ويُشكِّلُ العمودَ الفقري لجزيءٍ بروتيني يأخذ شكلاً ريشياً يشبهُ فرشاةَ تنظيفِ القواريرِ (الصورة أدناه)، وهو بروتينٌ يساعدُ على إعطاءِ المظهرِ الغَرَويِّ واللَّزجِ والمتماسكِ للُّعابِ.
Image: Duo “Erica” Xu
رسم توضيحي للبروتين (MUC7) في لعاب الإنسان
وَجدتِ الدراسةُ أنَّ المورثةَ (MUC7) تحملُ تعليماتٍ لبناءِ مركباتٍ هامَّةٍ في البروتينِ الريشيِّ السابق، وأنَّ هذه التعليماتِ قد تكرَّرت في كلِ الأنواعِ التي شمِلتها الدراسةُ، حيثُ حملَت مورثةُ الغوريلا أقلَ عددِ نسخٍ من هذهِ المعلوماتِ تراوحت ما بين (4-5)، بينما حملت مورثةُ القردةِ الخضراءِ (11-12) نسخةً، وانخفضَ في البشرِ إلى ما بين (5-6) نسخٍ.
وخَلُصَ الباحثونَ، بعدَ تحليلٍ عميقٍ للتاريخِ التطوريِّ للمورِّثة (MUC7)، بأنَّ وجودَ نسخٍ متكررةٍ من تعليماتِ بناءِ البروتينِ، يمكنُه على الأرجحِ منحُ ميِّزاتٍ تطوريةٍ هامةٍ للُّعابِ، منها جعلَهِ زلقاً، وربَّما أبعدُ وأهمُّ من ذلك، مثل جعلهِ قادراً على ربطِ الميكروباتِ وكبحِ حِدّة المرضِ.
أمَّا الدرسُ الهامُّ المُستخلصُ من هذهِ الدراسةِ فهو:
لقد ثَبُتَ أنَّ التطوُّرَ يدعمُ التوسُّع في التعبير الوراثيِّ للأدواتِ الوراثيَّةِ الموجودةِ أصلاً وثَبُتَ نجاحها بالفعل، إضافةً إلى تطويرِ صفاتٍ جديدةٍ كلياً، أي أنَّ التطورَ لا يكمنُ في ابتكارِ وظائفَ جديدةٍ فحسْب؛ فقد تكونُ الحاجةُ للتطورِ تتمثلُ في تضخيمِ بعضِ الأدواتِ الموجودةِ أصلاً.
ففي حالةِ الجينِ (MUC7) أدَّى تكرارُ التعليماتِ الجينيةِ الرئيسيةِ أكثرَ من مرةٍ إلى إنتاجِ بروتيناتٍ أطولَ وأكثرَ كثافةً، كان لها دورٌ هامٌّ في ناحيتين أوَّلهما: إكسابُ اللعابِ ميزةَ اللزوجةِ والإنزلاق والتي تلعبُ دوراً هاماً في وظائفِ الكلامِ والمضغِ وغيرها من الوظائفِ الحيويَّةِ، أما الوظيفةُ الثانية فهي الإسراعُ في إزالةِ الجراثيمِ المسببةِ للأمراضِ من تجويفِ الفم.
والسؤالُ هو كيف تطورَتْ مورثة اللعاب (MUC7)؟
وجدَتِ الدراسةُ أنَّ التعليماتِ الوراثية المسؤولةَ عن بناءِ البروتين (MUC7) تتكررُ في الجزيءِ الوراثيِّ، وأُطلِقَ عليها مصطلحُ «التكرارات التَّرادفيَّة Tandem repeats» وهي عبارةٌ عن سلاسلٍ قصيرةٍ من المادةِ الوراثيةِ DNA، وتوجدُ بشكلٍ متكررٍ داخلَ الموَرِّثة.
وأظهرتِ هذهِ الدراسةُ الحديثةُ أنَّ ما تطورَ في الرئيسياتِ، هو تغيُّرُ أماكن مواقعَ هذه السلاسلِ في جزيء (MUC7) وتعتبرُ هذهِ الحالةُ مرحلةً طبيعيةً من التطورِ، ولكن بالمقابلِ تبقى المادةُ الوراثية مرتَّبَةً كما كانت في نسختِها الأصليةِ.
تحملُ هذهِ السلاسلُ القصيرةُ التعليماتِ الأساسيةِ التي يُركِّبُ من خلالها الجسمُ الحمضين الأمينيَّين «السيرين والثيرونين»، واللذان يعتبَرانِ اللُّبنتانِ الرئيسيتانِ لبناءِ البروتين الرِّيشيِّ والذي استمرَّ وجودهُ في كلِ الرئيسيات.
ووجدتِ الدراسةُ أيضاً، أنَّ المورثاتِ المشرفةِ على إنتاجِ السيرينِ والثيرونين، تتوضعُ في نفسِ الموقعِ من هذهِ السلاسلِ المتكررةِ بالنسبةِ إلى جميعِ أنواعِ الرئيسيات التي شمِلَتها الدراسةُ.
يقولُ أحدُ الباحثينَ المشاركينَ: "إنَّ احتمالَ حدوثِ ذلكَ بشكلٍ عشوائيٍ ضئيلٌ نسبياً، ممَّا يعني، أنَّ هذهِ التتابعاتِ الوراثيةِ أتاحت ميزةً تطوريةً لمُضيفها."
تُعزِّزُ هذهِ النظريَّةَ الدورَ الحاسمَ الذي يلعبهُ السيرين والثيرونين في وظيفةِ البروتين الذي تحمل تعليماتُ بنائهِ المورثة (MUC7)، حيث يلعبُ كلٌ منهما، دورَ نقاطٍ تتثبتُ عليها جزيئاتُ السكرِ، والتي تبرزُ عن جزيءِ البروتين المركزيِّ، وتعطي المظهرَ النهائيَّ الذي يشبهُ الفرشاةَ، والتي تقوم بدورها في القضاءِ على الميكروباتِ.
ولقد وضَّحَ البحثُ كيفَ أنَّ هذه السلاسلَ المتكررةَ يمكنُ أن تُعتَبَرَ خدمةً لتشكيلِ اللبناتِ الأساسيةِ لحدوثِ التكيفِ التطوريِّ السريعِ، وبالتالي تكونُ هذه السلاسل المتكررةُ، وسيلةً رئيسةً للعديد من المورثاتِ للتكيُّفِ السريعِ مع البيئةِ.
وفي النهايةِ يشيرُ القائمونَ على هذا البحث إلى أنَّ اللعابَ هو من السوائلِ الهامةِ في الجسمِ، الذي لم يُعطَ حقَهُ في مجالِ الدراساتِ الحيويةِ الطبيةِ والعلميةِ، وسيكونُ من المثيرِ دخولُ المورثة (MUC7) في أبحاثٍ جديدةٍ، تُستَخدمُ فيها التكنولوجيا الحديثة، ونحنُ نتوقعُ أن نتعلمَ المزيدَ حول الدورِ الهامِ الذي يلعبهُ اللعابُ في صحةِ الانسانِ من خلالِ هذه الدراساتِ الجينيةِ التطورية.
المصدر: هنا
البحث الأصلي: هنا