تاريخ اللغة العربية: تطوّر العربية منذ ظهور الإسلام حتى العصر الحديث
التعليم واللغات >>>> اللغويات
والحقيقةُ أنَّ العربَ عند اختلاطِهم بالأقوامِ الأُخرى لم يفطنوا بادئَ ذي بدءٍ إلى أهميةِ التقعيدِ ووضعِ ضوابطَ تحمي لغتهم في الوضعِ الاجتماعي والسياسي الجديدِ.
ولكن ما إنْ انتقلت حاضرةُ الدولةِ إلى الشامِ والعراقِ، حتى بدأت العربيةُ تأخذُ شكلاً يوائمُ الحالَ الجديدةَ لأسبابٍ متعددةٍ يمكنُ القولُ بأن أبرزها اختلاطُ العربِ بغيرهم من الأقوام، وما ترتبَ على ذلك من تأثيرٍ وتأثُّرٍ، إذ نجحتِ العربيةُ في استيعابِ كثيرٍ من المفرداتِ سواءً من اللغاتِ الشقيقةِ أو من اللغاتِ الأجنبية الأخرى ولعلّ أولَ خطوةٍ في تحريرِ العربية ونقلها إلى النطاقِ الرسميِّ كانت تعريبَ الدواوين والنقد في عهدِ الخليفةِ عبد الملك بن مروان سنة 706.
وهنا لا بد لنا من وقفةٍ أولى عند الخطِّ العربيِّ الذي تنقسمُ الآراءُ حول نشأتهِ، ولكنَّ أدقَّها وأقربها إلى الصوابِ أنّ الخطَّ العربيَّ اُشتقَ من الخط النبطي المتأخرِ والذي كان بدوره قد اُشتق من القلم الآرامي المربع، وهذا ما تؤكده النقوشُ العربية المكتشفةُ والتي كُتبت بهذا القلم.
وتُظهرُ الكتاباتُ الإسلامية المبكرةُ شبهاً كبيراً بالخطِ الذي كُتبَ به نقشُ حران، وهو في شكله أقربُ ما يكون إلى الخط الكوفي الذي كُتبت به نصوصٌ إسلاميةٌ ونفوشٌ وصلت إلينا من القرنِ الهجري الأولِ.
ولكن اختلاط العربِ بالأقوام الأخرى استدعى إجراءَ إصلاحاتٍ على الخطِ العربي لإزالةِ اللبسِ والإبهامِ الناجمِ عن التباس حروف الساميين المهملة (غير المنقوطة) إضافةً إلى التمييز بين المنصوبِ والمرفوعِ والمجرور، فكان الإِصلاح ُ الأولُ على يد أبي الأسود الدؤلي (686 م) الذي استعارَ من الخط السرياني نقاطاً تميزُ بين الحالات الإعرابية للكلمة. ثمّ كان الإصلاحُ الثاني القائم على التصنيف الهجائي بدلاً من الأبجدي، وللتميز بين الأحرفِ المتشابهةِ التي لم تكن منقوطةً آنذاك (كالدال والذال) قام يحيى بن يَعمر ونصر بن عاصم بوضع الإعجامِ، أي النقط لتمييز الحروف فيما بينها الأمر الذي استدعى تدخل الخليل بن أحمد الفراهيدي ليُدخل الإصلاح الثالث على الخط العربي، فيخترع الحركات والسكون ويستغني عن النقاط للدلالة على الحالات الإعرابية، ليستقر حال الخط العربي أخيراً وكان لهذا العمل شأنٌ جليلٌ، واليوم تُكتب لغاتٌ شتى كالفارسيةِ والكرديةِ والأرديةِ وغيرها بخطوطٍ اشتقت أساساً من الخطِ العربي الإسلامي.
على أنَّ شيوعَ اللحنِ (الغلط) في اللغةِ إضافةً إلى الحاجة الماسة لضبط العربية لغة القرآن الكريم والشعائر الدينية تسهيلاً لغير العرب دفعَ اللغويينَ الأوائلَ إلى العملِ على تقعيدِ العربيةِ، ووضعِ ضوابطَ النحوِ العربي بناءً على حركةِ استقراءٍ واسعةٍ قامَ بها هؤلاء العلماء، وكانت مادتُهم الأساسية نصوصَ القرآنِ والشعر الجاهلي وشعر الأعراب من أهلِ البادية الذين لم تُفسَد سليقتهم اللغوية بالاختلاط بالأممِ الأخرى، فظهرَ عند النحاةِ ما يسمى بعصر الاحتجاج، وكان أكثرهم متشدداً في هذا الأمرِ لدرجةِ رفضِهم الاحتجاجَ بالأحاديثِ النبوية لعدمِ يقينهم أنها مرويةٌ باللفظ الصحيح، وينقل الأستاذ سعيد الأفغاني قول ابن حيان الأندلسي:
" وإنَّما تركَ العلماء ذلك لعدمِ وثوقهم أنَّ ذلك لفظُ الرسول (ص)"
أما بداياتُ النحوِ العربي فغامضةٌ بعضَ الشيءِ ولسنا في معرضِ ذكرِ الآراءِ المختلفةِ، والراجحُ أنَّ أبا الأسود الدؤليِّ أولُ من تكلمَ بالنحوِ، ولكن الثابتَ يقيناً أنَّ الانطلاقةَ الحقيقةَ للنحو العربي كانت على يد ابن أبي إسحاق الحضرمي (735) ثم تبِعهُ الخليل بن أحمد حتى جاء سيبويه وبدأ عصراً جديداً من الدرس النحوي قائماً على التدوينِ والتأليفِ فكان "الكتابُ" أولَ ما دوِّنَ من أصولِ النحو، ثم تعددت الآراءُ والمدارسُ في النحو والصرف خاصةً في العراقِ الذي عرفَ مدرستي الكوفة والبصرة، وما بينهما من منافسةٍ شديدة لم تقتصرِ على النحو فحسب بل شملتِ عموم علوم اللغة وعلم الكلام.
كما كان لصناعة المعاجمِ ،على أشكالها، أثرٌ بارزٌ على اللغة العربية وتنظيمها، ما جعلها قادرةً على احتواءِ الإرثِ الكبير المدوّنِ بالعربيةِ أو المترجمِ عن اللغاتِ الأخرى. ويجمعُ الباحثون على أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو أولُ من وضعَ مُعجماً في اللغة العربية، وهو «كتاب العينِ»، وقد رتّب َمادتهُ بحسب مخارجِ الحروف ابتداءً من حرف العين. وعلى خطا الخليل ظهرت معاجمٌ عربيةٌ كثيرة ومتنوعة في مادتِها وأسلوبها نذكرُ أشهَرها من معاجم الألفاظ: «الحروف» و«الجيم» للشيباني، و«الجمهرة» لابن دريد، و«المحيط» للصاحب بن عباد، و«الصحاح» للجوهري، و«القاموس المحيط» للفيروز أبادي، و«لسان العرب» لابن منظور. ومن معاجم المعاني: «فقه اللغة وسر العربية» لأبي منصور الثعالبي، و«المُخصَّص» لابن سيده.
وشهدَ العصرُ العباسي نهضةً ثقافيةً كُبرى تمثّلت بتعدد المدارس الفلسفية والكلامية إضافةً إلى التأليفِ والترجمةِ والنقل من اللغات الأخرى وهذا بدوره أدّى إلى إغناءِ اللغة العربية والارتقاء بأساليبها ومفرداتها من خلال استيعاب مفردات ومعاني جديدة.
ولكن ما أنْ نصلَ إلى عصرِ الدول المتتابعة ومن ثم فترةِ الحكم العثماني حتى تبدأ اللغة العربية حالةً أشبه بالجمود نتيجة الركود الثقافي والاجتماعي في تلك العصور فتراجعت مكانةُ اللغةِ العربية أمام سلطانِ اللغة التركية واللغات المحلية الأخرى.
واستمرت الحالُ على ما هي عليه حتى بدأت بوادرُ النهضةِ العربيةِ بالظهور في نهايات القرن التاسع عشر فشهِدت اللغة العربية انتعاشاً على يدِ المفكرين والمتنورين من أدباءِ النهضةِ ورجالاتِها، وكان لاستيقاظِ الشعورِ الوطني والقومي دورهُ في بعثِ اللغة العربية ثم جاءت الصحافة لتحررَ اللغةَ العربية مما علقَ بها من رواسبِ عصورٍ من الانحطاط والتخلف فعمل الكتّابُ على تجديد أساليبهم بما يتناسب وروحَ العصر ونشطت حركةُ التأليف لتؤكدَ على الحلّةِ الجديدة للغةِ العربيةِ.
ثم جاءت المجامعُ اللغوية تعزيزاً ودعماً للغة العربية ومساهمةً كبرى في حركةِ التعريب والترجمة فكان مَجمعُ اللغة العربية بدمشقَ أولُ هذه المجامع ظهوراً وقد أُنشئ أولاً في العهد الملكي عام 1919 تحت مسمى "المجمع العلمي العربي" وتولى رئاسته محمد كرد علي وكان من أشهر أعضائه أمين سويد وأنيس سلوم وسعيد الكرمي ومتري قندلفت وعيسى إسكندر معلوف وعبد القادر المغربي وعز الدين علم الدين وطاهر الجزائري. كان له دورٌ كبيرٌ في تعريبِ مؤسسات الدولة وهيئاتها وتعريب التعليم وإنشاء المدارس الأولى في سورية. وجمعَ الآثارِ القديمة، وجمع الكتبِ المخطوطةِ والمطبوعة وتوسّعَ عددُ أعضاء مجمع اللغة العربية بعد ذلك إلى عشرين عضواً عاملاً في سوريا. وتوالى على رئاسته الأساتذة: محمد كرد على (حتى 1953)، خليل مردم بك (حتى 1959)، مصطفى الشهابي (حتى 1968)، حسني سبح (حتى 1986)، وشاكر الفحام.
ثم كان تأسيسُ المَجمع في بيروت عام 1920 برئاسة عبد الله ميخائيل البستاني وكان من أعضائه إسكندر معلوف والشيخ مصطفى الغلاييني وبشارة الخوري ولكن المجمع أُلغي بداعي توفيرِ النفقاتِ.
وفي عام 1932 صدرَ مرسومٌ ملكيٌ في مصرَ يقضي بإنشاء مجمع اللغة العربية في القاهرة وضم عدداً من المختصين في اللغة العربية من العرب والمستشرقين.
أمّا المجمعُ العلميُ العراقيُ فتأسّسَ عام 1947 برئاسةِ محمد علي الشبيبي. ومن ثم اجتمعت المجامعُ اللغويةُ العربيةُ في اتحادٍ واحٍد تأسّس عام 1971 بهدفِ تنظيمِ عملِ المجامع والتنسيق فيما بينها والعملِ على توحيدِ المصطلحات العلمية والفنية والحضارية ونشرِها.
وتحتلُ اللغةُ العربية اليومَ المرتبةَ الخامسةَ من بين اللغاتِ واسعة الانتشار في العالمِ إذ ينطقُ بها ما يزيد على 350 مليون شخص حول العالم، وهذا ما دفعَ منظمةَ الأمم المتحدة إلى إعلانِ العربية لغةً رسميةً في الأمم المتحدة وأصبحت من لغات العملِ في مختلف الهيئات والمنظمات التابعة لها كما عيّنت يوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر كل عام يوماً للاحتفالِ باللغةِ العربيةِ.
المصادر:
تاريخ اللغات السامية: إسرائيل ولفنسون
في أصول النحو: سعيد الأفغاني
مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاما: إبراهيم مدكور
المعاجم اللغوية العربية: إميل يعقوب
هنا