الدورة الشهرية ضريبة فرضها التطوّر على المرأة
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
الحيض هو تلاشي الطبقة السطحية الداخلية من بطانة الرحم على شكل نزيف دموي يخرج من مهبل الأنثى، وهذه العملية تحدث عند بعض أنواع الثدييات المشيمية (التي تتكوَّن لديهم مشيمة في أثناء الحمل)، نتيجة انخفاض تركيز مستويات هرمون البروجسترون في نهاية دورة تكاثرية غير مخصبة.
جاءت إحدى التفسيرات التطوُّرية لامتلاك الأنثى دورةً شهريةً، عن طريق دراسات متنوِّعة للبحث عن وجود علاقة بين هذا الحدث الفيزيزلوجي والعملية التطوُّرية التي تضع لمساتها السحرية للاستفادة من الحد الأقصى من الظروف المحيطة؛ فقد اعتُقد سابقًا بظهور الدورة الشهرية لدى الأنثى لإجراء تطهير دوري للرحم من العوامل المُمرضة التي قد ترافق النطاف عند حدوث الإلقاح، أمَّا التفسير الآخر فجاء ليُبين أنَّ تراجعَ بطانة الرحم نتيجة الدورة الشهرية هو من أجل توفير الطاقة عن طريق التخلص من النسيج الموجود ضمن الرحم بدل الاحتفاظ به دون أدائه أيَّة وظيفة بسبب عدم حدوث الإخصاب وتَشكُّل البلاستيولا (وهي المرحلة الجنينية التي يتكوَّن فيها الجنين من مجموعة خلايا على شكل كرة مجوفة تنغرس في بطانة الرحم)، لكنَّ هذه التفسيرات لم تكن دقيقةً وحملت العديد من الأخطاء؛ فجاء بعدها عدد من النظريات التي كانت أكثر إقناعًا، ودُعمت بعدة أدلة سنتعرَّف إليها في هذا المقال.
هل تمرُّ بقية إناث الثدييات بالدورة الشهرية؟
إنَّ أغلب الحيوانات الثدية لا تحيض، ما يخالف المعتقد السائد، فإناث الكلاب مثلًا لا تنزف نتيجة حدوث دورة شهرية لديها، وإنَّما لحدوث نزف مهبلي؛ الحيض أو الدورة الشهرية في الواقع هو أمرٌ يميز الرئيسيات العليا وبعض أنواع الخفافيش، وعلاوةً على ذلك فإنَّ أنثى البشر تحيض بمعدل أكبر من إناث الأنواع الأخرى. وهذا الأمر للأسف مرهقٌ جدًّا، فضياع هذا الكمّ الكبير من المواد المغذية مع الدم المطروح في الحيض، والتعطيل المحتمل للأنثى عن وظائفها نتيجة الألم المرافق لحدوثها هو أمر مزعج حقًّا.
لنتمكن من فهم سبب مرور إناث البشر بالدورة الشهرية؛ يجب علينا أن ندرس الحمل والعلاقة ما بين الأم والجنين عن كثب.
ما دور عملية الحمل في فهم سبب مرور الأنثى بالدورة الشهرية؟
إنَّ الحملَ أمرٌ رائع هكذا تصفه الكتب المختلفة، وإن تعمقت بالبحث في هذه العلاقة؛ فستعجب لذلك التكافل البديع بين الكائنين، والإيثار المطلق لوظائف جسم الأنثى التي تسعى لخلق بيئة ملائمة تمامًا كي ينمو هذا الجنين بصحة وسلامة.
هذا التصوير الذي يجعل من الحمل أمرًا جميلًا وجذابًا هو للأسف وصفٌ مبالغٌ فيه، وعلى الرَّغم من كون تلك اللحظات من تقديم العطاء المجرد والتضحية موجودةً بالفعل، لكنَّها مفعمةٌ بأسابيع وأشهر من التحمل والإرهاق؛ فالمرأة الحامل تعاني من غثيان لا يحتمل وإعياء متكرر وآلام ظهر مضنية، إضافة لعدم القدرة على ضبط النفس، ووجود مشاكل متعلّقة بضغط الدم والقلق؛ إذ يوجد قرابة 15% من النساء اللاتي قد يواجهن أخطارًا تهدد حياتهن في الحمل.
وعند مقارنة حمل إناث البشر (بكلِّ ما يحتويه من المعاناة والإنهاك) بعملية الحمل لدى بقية الثدييات نجد الأمرَ مختلفًا تماما؛ فأغلب إناث الثدييات تمرُّ بتجربة الحمل بابتهاج ومرح، مُحاولةً في ذلك تجنب المفترسين واصطياد الفرائس، حتى لو أنجبت 12 مولودًا، إذن ما الذي يجعل إناث البشر أكثرَ تميّزًا؟ نجد الإجابة عند النظر للمشيمة العجيبة.
ما دور المشيمة في الحمل؟
تتداخل المشيمة مع الطبقة السطحية لبطانة الرحم، وتُعدُّ صلة الوصل بين الجنين والأوعية الدموية عند الأم، التي تسمح بعبور المغذيات للجنين الصغير؛ الرئيسيات العليا والفئران فقط هي من تمكنَّت من تطوير ما يُسمَّى المشيمة الدموية، ومن المثير للاهتمام أن نعلم أنَّ المشيمة الخاصة بنا كبشر هي الأشرس على الإطلاق مقارنةً ببقية الثدييات.
ففي الحالة العادية؛ وعندما يستعد الرحم للحمل، تفصل طبقة سميكة (مكوَّنة من نسيج بِطاني يحتوي على أوعية دموية قليلة داخل الرحم)، الدورانَ الدموي للأم عن الجنين المنغرس حديثًا؛ فتقوم المشيمة المتشكّلة بالحفر ضمن هذه الطبقة، وتتغلغل في جدران الشرايين وتعيد توصيلهم عن طريق شبكةٍ جديدة تَمدُّ الجنين الجائع بالدم مباشرة.
وفي أثناء عملية الانغراس تحدث عدة أمور، منها أنَّ الجنينَ يتمكَّن من التزوُّد بالدم والمغذيات من دم شرايين الأم مباشرة، ومن ثَمَّ فإنَّ الأم لا تستطيع تقليل محتوى المغذيات الموجودة في الدم الواصل إلى المشيمة، دون أن تقلل بالمقابل من وصول المغذيات لأنسجة جسدها، كما أنَّ حجم الدم الذي يصل إلى المشيمة يتحرر من سيطرة الشرايين الخاصة بجسم الأم، وتتمكن المشيمة أخيرًا من تصنيع الهرمونات وإطلاقها ضمن الدوران الدموي للأم، وتستخدمها للتلاعب بوظائف جسم الأم لصالح الجنين، كما تقوم المشيمة بزيادة سكر الدم أيضًا وتمديد الشرايين ورفع ضغط الدم لدى الأم بهدف زيادة تدفق المواد المغذية للجنين في الحمل.
هل يتشارك الجنين والأم المصالح التطورية ذاتها؟
يتضح هنا أنَّ الأم والجنين يمتلكان مصالح تطوريةً متعارضةً قليلًا؛ فالأم ترغب في تأمين موارد متساوية تقريبًا لجميع أبنائها القادرين على النجاة، إضافة إلى طفلها المستقبلي في حين يرغب الجنين بالبقاء حيًّا، ومن أجل تحقيق ذلك فإنَّه يحاول الحصول على أكبر قدر ممكن من الاحتياجات، ويوجد في هذه المعادلة طرف ثالث وهو الأب الذي لا تزال مصالحه التطورية تنحاز بعيدًا عن الأمِّ قليلًا تجاه ذريته الحالية (الحمل الحالي)؛ فقد لا يكون هو سبب الحمل لدى الأم نفسها، وهنا تتفعَّل في المشيمة بعض مورثات الجنين الآتية من الأب، تعمل هذه المورثات لصالح الجنين حتى لو حدثت نتيجة ذلك آثار سلبية على الأم.
ومن الغريب حصول البشر على هذه المشيمة الدموية النهمة التي تمنح كلًّا من الجنين والأب قوىً خارقةً في رحم الأم، لا تزال الإجابة عن هذا اللغز ضائعةً في ثنايا الزمن الغابر؛ لأنَّ الأرحام وملحقاتها لا تشكل أحافير أو مستحاثاتٍ جيدة، ما أدَّى إلى عدم القدرة على دراسة الموضوع دراسة متكاملة ودقيقة.
إلى هنا ما علاقة كلِّ ما ذكرناه بالحيض والدورة الطمثية؟
الحمل هو استثمار ضخم من وجهة نظر الأنثى، وحالما تتشكَّل المشيمة الدموية في مكانها لا تفقد الأنثى السيطرة على هرمونات جسدها وحسب، وإنَّما تُخاطر بحدوث النزف عند خروج هذه المشيمة من جسدها أيضًا؛ لذا تتابع الإناث حمولهن دوريًّا بإشراف طبي؛ للتأكُّد من سلامة الجنين وضمان استمرار عملية الحمل دون عراقيل أو مشكلات؛ فخوض تجربة الحمل مع جنين ضعيف واهٍ، فيه العديد من التشوُّهات أو المشكلات أمرٌ لا يستحق المتابعة فيه.
ما دور البطانة الرحمية؟
هنا يأتي دور البطانة الرحمية التي من المفترض أن تهيئ الوسط الدافئ لاستقبال الجنين، ومعانقته بحنان في حضن هادئ، لكنَّ الواقع أنَّ دور البطانة الرحمية معاكسٌ تمامًا لما سبق، وللتأكُّد من دور البطانة الحقيقي في عملية الحمل أجرى الباحثون تجربةً بغرس أجنة في مراحل النمو الأولي (مرحلة البلاستيولا)، في جميع الأعضاء الموجودة في جسد الفئران، وكانت المفاجأة بأنَّ أصعب مكان لنمو الجنين هو البطانة الرحمية على عكس بقية أجزاء الجسم؛ إذ انغرست خلايا البلاستيولا في كلِّ من الدماغ والكليتين والكبد والخصيتين والطحال.
وهنا يتضح أنَّ دور البطانة الرحمية تخطى توفير الحضن الراعي للجنين؛ ليشكِّل أرضيةً لاختبار عسير ومحفوف بالمصاعب؛ فيتمكَّن بعدها الجنين الأقوى من النجاة والاستمرار بعد اجتياز ذلك الاختبار بنجاح فقط؛ فكلما تمكَّنت الأنثى من تأخير وصول هذه المشيمة إلى مجرى الدم الخاص بها حصلت على وقت أطول لتختار فيما إذا أرادت أن تُبقِي على الجنين أو تتخلص منه دون أيَّة تكلفة تُذكَر؛ أمَّا الجنين فهو بخلاف الأم؛ يريد أن ينغرس ضمن المشيمة في أسرع وقت ممكن، ليضمن الوصول إلى مجرى دم والدته الغني بالمغذيات، وذلك لزيادة فرصه بالبقاء، ونتيجةً لهذا التنافس أصبحت بطانة الرحم أكثر سماكةً وأكثرَ قوةً، لتصبح المشيمة بالمقابل أكثر عدائيةً في العمل والتعامل.
لكنَّ هذا التطوُّر؛ قد طرح مسألة أكثر عمقًا، وهي: ما الذي يجب فعله في حال موت الجنين؟ أو بقائه في حالة نصف حية داخل الرحم؟ عند حدوث هذا الأمر يجب تقليل كمية الدم التي تصل إلى بطانة الرحم، وإلّا سيبقي الجنين المشيمة ملتصقةً بالرحم (مواصلةً عملياتها العنيفة ضد الأم)، لكن من ناحية أخرى فإنَّ تقليل التزود بالدم سيجعل استجابة الأنسجة للإشارات الهرمونية القادمة من الأم أضعف، واستجابة الأنسجة أقوى للإشارات القادمة من الجنين الذي سيجعل البطانة تؤدي دورًا لطيفًا تجاهه، إضافة إلى ذلك تصبح الأنسجة أكثر عرضةً للإنتان؛ خاصةً أنَّها تحوي أساسًا على نسيج متموِّت ومتنخِّر، وهنا تتفاقم المشكلة!
ما الحل ؟
كان الحلُّ لتلك المشكلة لدى الرئيسيات الكبرى هو تخلُّص الرحم من طبقة البطانة السطحية -التي تتضمّن الجنين الميت والأنسجة المتموِّتة الأخرى- بعد كل عملية إباضة لم تساهم في إعطاء حمل جيد وسليم، وهذه العملية ليست ذكية جدًّا بالطبع، لكنها تفي بالغرض وتحل المشكلة، والأهمُّ من ذلك أنَّها تُنجَز بسهولة عن طريق إجراء بعض التبدلات في السبل الكيميائية المستخدمة من قبل الجنين في الحمل؛ وبعبارة أخرى كلّ ذلك هو أحد آثار الانتخاب الطبيعي المعروف بحلوله الغريبة والصعبة التي تجدي نفعًا في حلِّ المشكلات الطارئة؛ فعلينا الاعتراف أنَّ هذا الحلَّ ليس سيئًا للغاية؛ فبالرَّغم من معاناة النساء كثيرًا خلال الدورة الشهرية؛ لكنَّ انقطاع الطمث في سنٍّ معينة، وتوقُّفه خلال الحمل والإرضاع يخفف من حدة هذه المعاناة.
نحن لا نعلم حقيقةً كيف ترتبط المشيمة الخاصة بنا بالسمات الأخرى التي تجتمع وتجعل البشرية فريدةً بصفاتها، لكنَّ هذه السمات قد ظهرت معًا على نحوٍ ما، وعندما بدأنا رحلتنا نحو العلم والمعرفة وانفصلنا عن الحيوانات البريئة وقادنا ذلك إلى تشكُّل حسٍّ خاصٍّ بالأخلاقيات الجنسية لدينا، وربَّما لحقت معاناة الدورة الشهرية والحمل والولادة بالأنثى منذ ذلك الوقت، ويعود الفضل كلُّه إلى تطوُّر المشيمة الدموية.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا