لماذا فقد البشر ذيولهم مرّتين؟!
البيولوجيا والتطوّر >>>> التطور
امتلكت أسلافنا الفقارية الأولى الأذناب اللّحمية (fleshy tails)، ووُجدتْ لدى الأجنّة الصغيرة في بدايات تشكّلها، فقد كان من الصعوبة أنْ يتمَّ التخلّص منها كليّاً دون أنْ يسبّب ذلك العديد من المشاكل، سواء على الصعيد الوراثي أم الفيزيولوجي، ولذلك لزم على كلّ من الأسماك والبشر أنْ يعيقوا نموّ الأذناب، وبقي لديهم نتيجةً لذلك ذيول أثريّة كتذكار صغير لامتلاكهم الذيول فيما سبق، تماماً كما تمتلك الحيتان عظاماً أثريّةً لأطراف خلفية متوضّعة ضمن هيكلها العظمي على جانبي العمود الفقري.
إذا راقبت مراحل التطوّر الجنينية بدقّة ستلاحظ أنّ الجنينَ في بداية تشكّله يكون مثل السمكة، ثمّ يبدو مثل الثدييات الصغيرة، ثمّ مثل القرد، ثمّ يبدو في هيئة بشر شيئاً فشيئاً. (لقراءة المزيد عن الذيول البشرية طالع مقالنا السابق: هنا)
ولنحلَّ لغز الذيل الغامض وفق منهجية صحيحة، يجب علينا اقتفاء أثر الذيل الأثري عبر التسلسل الزمني لأحفوريات أنواع محدّدة من الأسماك.
كيف أُجريت الدراسة؟
حلّلت الباحثة (لورين سالان Lauren Sallan) أحافير صغار سمكة (Aetheretmon)* تعود إلى 350 مليون عام مضى، أي أنّها تتبّعت سلسلة من تحوّلات السّلف عبر زمنٍ طويلٍ جدّاً. يمتلك السلَف البعيد لهذا النوع من الأسماك فكّاً مشابهاً لفكوك الحيوانات البرية اليومَ، وكان لديه كلّ من الذيل الهيكلي اللحمي، والزعنفة المرنة المتحركة، أي أنَّ هذا النوعَ من الأسماك قد امتلك نوعين من الذيول المختلفة متوضّعين أحدهما فوق الآخر.
وجدت الباحثة (سالان) أنَّ هذين الذيلين منفصلان تماماً، إذْ قارنت أحافير سمك (Aetheretmon) بتسلسل أحافير الأسماك الحيّة، ووجدت أنَّ كلّاً من نوعي الذّيول يبرز بحيث يتوضّع أحدهما فوق الأخر، ثمّ ينمو كلّ واحد منهما على حِدَة. يخالف هذا الاكتشاف الفرضيّة التي سادت لما يقارب قرنَيْن من الزمن في علوم الأحياء والتطوّر، التي قامت على فكرة أنَّ زعنفةَ السمكة البالغة الموجودة في أيّامنا هذه عبارةٌ عن قطعةٍ زائدةٍ أُضيفت إلى نهاية ذيل السّلف (ancestral tail) الذي تشترك به الأسماك مع حيوانات اليابسة.
علامَ تدلّ النتائج التي خلصت إليها الدراسة؟
يدلّ الانفصال بين هذين التركيبين على أنَّ كلَّ نوعٍ من الذيول قد سلك طريقه التطوّري الخاصّ وفق الحاجات التطوّرية اللازمة. إذْ فقدت الأسماك الذيل اللّحمي وبقي لديها الذّيل المرن الذي يساعدها على السباحة، ويمنحها قدرةً أفضل على التحرّك في الماء بجميع الاتّجاهات، فامتلاك الزعنفة الخلفيّة فقط يعطي دقّةً أعلى في توجيه الحركة، في حين أنَّ الذّيلَ العضلي يُحدث نوعاً من الإعاقة، فهو يساهم في السباحة الفاعلة التي تتطلّب قوةً أكبر.
إنَّ الأسماكَ التي تطوّرت لتكون نصف مائية semi-aquatic، ثمّ إلى كائن يعيش على اليابسة قد فقدت الزعنفة الخلفيّة المرنة، لكنّها احتفظت بالذيل اللّحمي الذي تطوّر ليصبح بالشكل الشّائع اليومَ، كالذيول الموجودة لدى القطط والكلاب والأبقار والعديد من الحيوانات الأخرى، وتظهر الكلاب أنّ لذيولها فائدةً في مجال التّواصل البصري، والتخلّص من الحشرات الطائرة المزعجة، وبعض الوظائف الأخرى.
ماذا عن الرئيسيات؟
وصلت القردة البالغة -ومن ضمنها أسلاف البشر- إلى مراحل متقدّمة في عملية فقدان الذّيل، إذْ إنّها فقدت الذيل العظمي المتبقّي لضمان حركة منتصبة أفضل. وكما الأسماك فإنَّ بقايا الذيل العظمي الجنيني موجودةٌ في أسفل العمود الفقري بما نطلق عليه عظم العصعص (the coccyx) أو عظم الذيل، فقد أُلغيَ التعبير الجيني لنموّ الذيل عبر فقدان الإشارات الجزيئية التي تؤدّي إلى نموّه مثلما تنمو الذراع أو القدم، وبهذا نجد أنَّ أجنّة البشر والأسماك تمتلك آلياتٍ جزيئية متشابهة من أجل التحكّم في تشكّل الذيل.
إنَّ السجلَّ الأحفوري الخاصّ بالقردة الأولى ليس مذهلاً إلى درجة كبيرة، فهو لا يمدّنا بمعلوماتٍ كافية عن تفاصيل تخصّ عملية فقدان الذيل، وتعتقد (سالان) أنّه بافتراض أنَّ القردة لا تمتلك ذيولاً، فإنَّ أسلافنا الأوائل قد فقدوا غالباً تلك الذيول عندما بدؤوا بالمشي على قائمتين لأول مرّة. فالقردة التي تمشي على أرجلها وتمتلك ذيولاً تواجه بعض العراقيل أثناء الحركة، وهذا دليل على أنّ الذيل يقف عقبةً في طريق الحركة المنتصبة.
يمكننا القول إنَّ عمليةَ نموّ الذيول هي عمليةٌ مشابهة لعملية نموّ الأطراف، ولها الكثير من التطبيقات في مجال تطوّر الكائنات الفقارية، ما يَعِدُنا بالمزيد من الاكتشافات مستقبلاً.
* جنس من الأسماك الشعاعية المنقرضة.
المصادر:
هنا
هنا