إدوارد جينر ... أوّل من نظّم وطوّر لقاح الجدري
البيولوجيا والتطوّر >>>> شخصيات في عالم البيولوجيا
اشتُهِر جينر في العالم بسبب أعماله المتعلقة بالتمنيع (Immunization) ضد الجدري، وقد اعتبرت جهوده في هذا المجال أساس ما يُسمّى اليوم علم المناعة (Immunology) على الرّغم من أنّه لم يكن أوّل من قال أن الإصابة بجدري البقر تسبّب التمنيع ضد جدري الإنسان، ولا أوّل من بدأ عمليات التطعيم ضد هذا المرض. فما هي مساهماته العظيمة في هذا الموضوع؟
منشأ الجدري كمرض:
لا يُعرف على وجه التحديد متى نشأ الجدري كمرضٍ على سطح الأرض، ولكن يُعتقد أنّه بدأ بالظهور منذ الألف العاشر قبل الميلاد، وهذا الوقت يُوافق الاستيطان الزراعي الأول في شمال شرق أفريقيا، ومن ذلك المكان انتشر نحو الهند عن طريق التجار الفراعنة. إنّ أقدم الأدلّة التي تُشير إلى وجود آفاتٍ تشبه الجدري كانت على وجوه مومياواتٍ فرعونية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد تقريباً. ويُذكر أيضاً أن وجه مومياء الفرعون رمسيس الخامس عليه آفات تؤكّد إصابته بالمرض.
وصل الجدري إلى أوروبا خلال الفترة التي تتراوح ما بين القرنين الخامس والسابع الميلاديين، وأحدَث العديد من الأوبئة خلال العصور الوسطى. وقد تزامَنت المراحل الأولى من انحدار عهد الإمبراطورية الرومانية، في عام 108 بعد الميلاد، مع انتشار واحدٍ من أوبئة الجدري الذي حَصَد ما يُقارب السبعة ملايين من أرواح البشر. وكان لتمدد الدول وللحركات الاستعمارية في أوقاتٍ لاحقة الأثرُ الكبير في نشر هذا المرض على بقاع الأرض كلها.
التطعيم والمحاولات الأولى للعلاج:
لقد حاول الإنسان على مرّ العصور أن يعثر على علاجٍ لهذا المرض المخيف، وكان من المعروف أنّ أي ناجٍ من الجدري لن يصاب به مرة أخرى. خلال العصور الوسطى، انتشرت العديد من الوصفات الغريبة التي استُخدِمت كعلاجٍ لهذا المرض. نذكُر منها قيام الطبيب سيدنهام في القرن السابع عشر بعلاج مرضاه عن طريق منع إشعال النار في الغرفة، وترك النوافذ مفتوحة، وإبقاء الجزء الأعلى من جسم المريض مكشوفاً بالإضافة إلى إعطاء المريض 12 زجاجةً من البيرة قليلة الكحول كل 24 ساعة!
على أي حال، كان التطعيم هو المحاولة الأكثر نجاحاً لمقاومة المرض قبل اختراع اللقاح. والتطعيم (Inoculation) هو مصطلحٌ يعني "الزرع أو الغرس"، أي ببساطة وضعُ فيروس الجدري تحت جلد الشخص غير المُمنّع. ويؤخذ الطعم (الفيروس) عادةً من بعض السوائل التي تخرج من حويصلات شخص مصابٍ بالمرض.
عند الأخذ بعين الاعتبار أن أوروبا كانت تتمتع ببعض التنظيم الطبي الجيّد، نجد أن التطعيم قد انتشر التطعيم بشكل واسعٍ بين الجميع.
- إدوارد جينر:
ولد إدوارد جينر في أيار من العام 1749، في بيركلي، بريطانيا. أصبح إدوارد يتيماّ منذ الخامسة من عمره وذهب ليعيش مع أخيه الكبير. كان هذا الصبيّ شغوفاً بالعلم والاستكشاف منذ الصغر، وتطوّر هذا الشغف واستمرّ معه طيلة حياته. التحق في سن الثالثة عشر بمدرسة الجراحة والصيدلة، بالقرب من بريستول، ويّقال أنّه سمع هناك من إحدى عاملات الحليب أنّها لن تُصاب بجدري الإنسان لأنّها قد أُصِيبت سابقاً بجدري البقر (Cowpox). وفي واقع الأمر، كان يسود اعتقادٌ بأنّ من يعمل في صناعة الحليب ومشتقاته كان في حمايةٍ من الإصابة بجدري الإنسان.
تزايدت علوم وخبرة جينر حتى ذهب إلى لندن وأصبح تلميذاً لجون هنتر John Hunter، الذي كان من أشهر جراحي إنكلترا وعلمائها في ذلك الوقت. ودامت هذه الصداقة بينهما حتى وفاة الأخير في عام 1793. كان لجينر اهتماماتٌ واضحة في العلوم المتنوّعة حتى أنه ساعد في تصنيف العديد من الأنواع التي جلبها معه الكابتن كوك في رحلته الأولى.
أدرك جينر أن جدري البقر يُمكن أن يحمي البشر من جدري الإنسان، وبناءً على ذلك توقّع أنه في حال نقل جدري البقر بين الناس فإنّه سوف يؤمّن لهم الحماية من جدري الإنسان.
في عام 1796، التقى جينر شابةً تعمل بمشتقات الحليب، اسمها سارة نيلمز Sarah Nelms. وقد كانت سارة مصابةٌ حديثاً بجدري البقر. قام جينر بأخذِ بعضٍ من الآفات من عند سارة وطعّم بها صبياً يبلغ من العمر 8 سنوات وكان اسمه جيمس فيبس James Phipps. ظهرت عند الطفل أعراضٌ خفيفة من حمّى وفقدانٍ للشهية ولكنه سرعان ما تحسّن بعد ذلك تماماً. لاحقاً، اختبر جينر ما قام به بتطعيم الصبي مستخدماً فيروس جدري الإنسان نفسه هذه المرة، وعندما لم يطوّر الطفل أياً من أعراض الجدري استنتج جينر أن هذا الطفل قد أصبح محمياً ضد الجدري تماماً.
أصل كلمة تلقيح (vaccination):
حاول جينر نشر ما توصل إليه في المجتمع العلمي، ولكن تمّ رفض ورقة البحث الخاصة به، مما اضطره أن ينشرها بنفسه في عام 1798 بعد أن ازداد عدد حالات التطعيم التي قام بها ضد جدري الإنسان. ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن جينر هو أول من أطلق كلمة Vaccination على هذه العملية، وهذا المصطلح مشتقّ من الكلمة اللاتينية "vacca" والتي تعني "البقرة".
لم يسعَ جينر إلى الربح المادي من هذا الاكتشاف الذي أدّى لوقف الجدري في العالم على الرغم من توفّر العديد من الفرص لذلك من خلال اعتراف العالم بما فعله في هذا المجال. وظلّ يحاول تطوير وتوسيع عمله في اللقاح حتى تم اعتماده في إنكلترا في عام 1840.
تنبع أهمية عمل جينر من كونه المحاولة الأولى للسيطرة على أحد الأمراض الخمجية عن طريق اللقاح. وللدقة، فّإن جينر لم يكن مكتشف لقاح الجدري ولكنّه أوّل من وضع الأطر العلمية لعملية التلقيح. لاحقاً خلال القرن التاسع عشر تم إدراكُ أن التلقيح لمرةٍ واحدة لا يعطي صاحبه حمايةً مدى الحياة وأنّه لا بُدّ من جرعاتٍ داعمة.
عزّزت الاكتشافات العلمية الحديثة حول آليات الأمراض الخمجية والمناعة والتمنيع ما كان قد اكتشفه جينر قبل ذلك. وقد كان لأعمال جينر في تنظيم وترويج عملية اللقاح الأثر الكبير في القضاء على مرض الجدري، وهذه هي مساهمة إدوارد جينر التي يجب ألّا تُنسى أبداً.
المصدر: هنا