هل يمكن لبروتين واحد أنْ يحدّد قابلية الإصابة بالتوحّد؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> التقانات الحيوية
يعلن اليومَ فريق من الباحثين من جامعة تورنتو الكندية يقوده كلّ من البروفسور بنجامين بلينكو (Benjamin Blencowe) من مركز دونلي التابع للجامعة، وسابين كورديس (Sabine Cordes) من قسم الوراثة الجزيئية في معهد بحوث لاندفيلد تانينبوم (Sinai Health System's Lunenfeld-Tanenbaum Research Institute.) عن تمكّنهم من إيجاد العامل المسبّب الذي يمكن له تفسير أسباب حدوث هذا الاضطراب لدى الكثير من الحالات المصابة به. فقد أثبت فريق البحث أنّ انخفاض معدّل إنتاج بروتين محدّد إلى النصف يكفي لظهور أعراض اضطراب طيف التوحّد وبالتالي الإصابة به.
اعتمدت هذه الدراسة على نتائج دراسة سابقة أجراها الفريق، وأثبت فيها أنّ التعبير الوراثي لبروتين (nSR100) -يعرف أيضاً ب -SRRM4الذي يعدّ أحد البروتينات الهامّة لنموّ وتطوّر الدماغ بشكل طبيعي، وجد منخفضاً في أدمغة ثلث (واحد من كل ثلاثة أشخاص) المشخّصين باضطراب طيف التوحّد. أمّا الفريق البحثي في هذه الدراسة فقد اختبر مدى أثر هذا البروتين عبر اصطناع فئران معدّلة وراثياً، تحمل في مادّتها الوراثية طفرةً قادرةً على خفض مستويات بروتين (nSR100)، ثمّ رصدوا ودرسوا سلوك هذه الفئران.
وجاءت النتائج مثيرة للدهشة بالفعل، فقد أدّى خفض مستويات بروتين (nSR100) للنصف إلى ظهور العلامات السلوكية المميّزة لاضطراب التوحّد، التي تمثلت بتجنّب التفاعل والتواصل الاجتماعي وازدياد الحساسية للضوضاء المثارة في الوسط المحيط.
ولم يكن التطابق سلوكياً وحسب، إذ بدى على أدمغة الفئران الحاملة لطفرة (nSR100) ميّزاتٍ وسماتٍ مشابهةً تماماً لتلك التي تبدو في أدمغة المصابين باضطراب التوحّد. ومن هذه السمات تغيّرات تصيب نظام التوصيل الذي يقوم بربط المناطق المختلفة بالدماغ، والتغيّرات التي تحدث عادةً خلال عملية التجديل (التضفير) البديل*.
تقول كورديس: "استطعنا سابقاً الكشف عن وجود صلة بين مستويات بروتين (nSR100) والإصابة باضطراب التوحّد، لكنّ الجديد هذه المرة هو أنّنا تمكنّا من إثبات أنّ انخفاض مستويات هذا البروتين قد يكون فعلاً المسبّب الرئيس لحدوث الاضطراب، وهذا ما يجعل الأمر هامّاً."
وكشف فريق بلينكو البحثي في دراستهم السابقة، عن وجود تناقص وتقلّص في حجم أدمغة العديد من المصابين بالتوحّد، ورأى الفريق أنّ هذه النتائج تشير فعلاً إلى أنّ اضطراب التوحّد يمكن أن ينشأ -بشكل جزئي- من تراكم بروتينات تشكّلت بطريق الخطأ خلال عملية تجديل بديل غير صحيحة.
تُظهر العديد من الحالات التي شُخّصت باضطراب التوحّد نشاطاً عصبياً ملحوظاً مقارنةً بما هو عليه لدى الأشخاص غير المصابين.
تمكّن الباحثون في فريق بلينكو بالتعاون مع بروفسور ميلاني وودين (Melanie Woodin) من قسم الخلية والأنظمة البيولوجية في جامعة تورنتو، من إيجاد صلة بين مستويات بروتين (nSR100) والنشاط العصبي.
ويصرّح (Quesnel-Vallieres) طالب الدراسات العليا في مختبر بلينكو: " إنّ تعطّل بروتين (nSR100)، الذي يتحكّم بعملية الربط البديل (المشار إليها آنفاً)، أو وجود عيب فيه، سيؤدّي إلى ظهور ازدياد في النشاط العصبي، وهو على الأرجح السبب الكامن وراء السلوكيات التي نلاحظها لدى المصابين بالتوحّد".
ويعقّب بلينكو على أهمّية الدراسة، والأهداف المستقبلية المرجوّة منها، فيقول: "تكمن أهمّية الفئران التي استحدثناها ليكون لديها خلل في مستويات بروتين (nSR100)، في إمكانيتها على تفسير الأسباب الأخرى التي يمكن أن ينشأ عنها اضطراب التوحّد، ويمكن أن يكون لها أثر ملحوظ في علوم الأعصاب، من خلال إبراز الدور الذي يمكن أن يلعبه بروتين (nSR100) في هذا المجال. وسيكون لهذه النماذج الحيوانية دور هامّ في إيجاد علاج لاضطراب التوحّد، إذ يمكن توظيفها واستخدامها كنموذج مفيد لاختبار العديد من الجزيئات الصغيرة (العقاقير) التي تملك احتمالية عكس الأثر الناتج عن نقص وانخفاض مستويات بروتين (nSR100)."
وتشير نتائج هذه الدراسة إلى الدور الكبير الذي يلعبه هذا البروتين في نشوء اضطراب التوحّد، إذ يمكن اعتباره محوراً مركزياً تلتقي عنده الأخطاء الجزيئية الأخرى التي يمكن أن تسهم بدورها في نشوء الاضطراب. فبدل التركيز على دراسة الطفرات الوراثية المتعلّقة بهذا الاضطراب كلّ على حدة، يبقى إيجاد محور واحد منظّم كافٍ لأن يختزل ويفسّر تلك الأخطاء -كبروتين (nSR100)- أكثر قوّةً ونجاحاً في فهم هذا الاضطراب، ومعرفة أسبابه، وحتّى علاجه. ومن يدري فقد يصبح من الممكن في المستقبل تحسين بعض مظاهر الضعف والمشاكل السلوكية التي يعاني منها المصابون بالتوحّد، بمجرّد رفع مستويات بروتين (nSR100) لديهم.
*توضيح لعملية التجديل (التضفير) البديل (Alternative splicing):
تُركّب البروتينات من وحدات أساسية تدعى الأحماض الأمينية، ويحدّد نوعُ وتسلسل الأحماض الأمينية المكوّنة لبروتين ما بنية ذلك البروتين، ووظيفته، والدور الذي يمكن أن يلعبه داخل أو خارج الخلية.
يعتمد نوع وتسلسل الأحماض الأمينية على الشيفرة الوراثية (التسلسل النيكليوتيدي) لDNA المورّثة. تُترجم الشيفرة الوراثية وتتحوّل إلى بروتينات بوساطة أنزيم خاصّ يبني نسخة مكمّلة ومطابقة لتلك الشيفرة مشكّلاً ما يعرف بRNA المرسال (mRNA) الذي سيمثّل فيما بعد الثقالة أو القالب/المخطّط الذي سيتشكّل البروتين بناءً عليه.
بعد انتهاء عملية النسخ يخضع RNA المرسال المتشكّل لعملية قص وإعادة ربط تعرف بعملية الربط البديل (Alternative splicing)، وهي مرحلة هامّة خلال عملية اصطناع البروتين، إذ تُقصّ وتُزال خلالها بعض قطع RNA المرسال التي تعدّ غير لازمة في تشفير البروتين. تمثّل هذه القطع عملياً المناطق غير المشفّرة (Introns) التي تُنسخ معاً إلى جانب المناطق المشفّرة (Exons) لDNA المورّثة.
بعد عملية القصّ والإزالة تأتي عملية اللّصق أو الربط، التي يعاد خلالها ربط القطع المتبقية بحيث تشكّل مجتمعةً النسخة النهائية التي ستترجم لتشكيل البروتين.
ليس بالضرورة أنْ يعاد ربط القطع دائماً بالترتيب نفسه الذي كانت عليه قبل إزالة القطع الزائدة، إذ يمكن في كلّ مرة أن يعاد ربطها مع بعضها بترتيب مختلف تماماً عن السابق أو الأصل، مكوّنة بهذا الشكل بروتيناتٍ مختلفةً عن بعضها بنيةً ووظيفةً.
ويمكن القول باختصار إنّه يمكن لمورّثة واحدة أنْ ينتج عنها بروتينات مختلفة عن بعضها البعض، لكلّ منها بنية ووظيفة مختلفة. هذا النظام يُمكّن الخلية من الحصول على عدد متنوّع من البروتينات يفوق عدد المورّثات الأصل بكثير.
وبالحديث عن الدماغ الذي هو محور مقالنا اليوم، ليس من المفاجئ أن تعلم عزيزي القارئ أنّ الربط البديل (Alternative splicing) من العمليات البارزة على نحو خاصّ في الخلايا المكوّنة للدماغ، إذْ يعتقد أنّ التنوّع الكبير في المحتوى البروتيني لهذه الخلايا هو السبب الكامن وراء التعقيد المذهل الذي يتّسم به الدماغ دون بقية الأعضاء. (هنا تجد فيديو يوضّح عملية الربط (التضفير) البديل).
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا