هل البكتيريا المعويةُ متورطةٌ بمرض باركنسون؟
البيولوجيا والتطوّر >>>> الأحياء الدقيقة
نظرةٌ سريعةٌ على داءِ باركنسون:
داءُ باركنسون هو ثاني أكثرِ أمراضِ التَّنَكُّسِ العصبيِّ شيوعاً لدى البالغين، يتظاهرُ باضطراباتٍ حركيةٍ شديدةٍ نتيجةَ عيوبٍ في التحكمِ بالحركة. تسببُ وراثةُ طفرةٍ وراثيةٍ (جينيّة) أقلَّ من 10% من حالاتِ باركنسون، في حينِ تكونُ معظمُ الحالاتِ مجهولةَ السبب. والسِّمةُ المميِّزةُ لهذا الداءِ غيرِ القابلِ للعلاج هو خسارةُ عصبوناتِ الدماغِ المتوسطِ المسؤولةِ عن تحريرِ الناقلِ العصبيِّ دوبامين (dopamine)، والسِّمةُ الأخرى هي وجودُ شكلٍ سيّءِ الترابطِ، متكدِّسٍ وسامٍّ عصبياً من البروتينِ ألفا- نوكْلِئين (α-synuclein). هناك دليلٌ قويٌّ على أنّ الدُّبَيقيّاتِ (microglia)، وهي الخلايا المناعيةُ الرئيسةُ في الدماغِ، ذاتُ الدورِ المركزيِّ في حدوثِ التنكُّسِ العصبيِّ، وقد أظهرتِ التقنياتُ التي تسمحُ باستهدافِ نوعَي تجمُّعاتِ الخلايا الدُّبيقيةِ أنّ هذه الخليةَ تملك دوراً ساماً للعصبِ لدى الحيواناتِ المصابةِ بداءِ باركنسون. تقول هايدِه بايامي Haydeh Payami الأستاذةُ في قسمِ علمِ الأعصابِ في كليةِ الطبِّ في النرويج، أنّ "نتائجَ دراسةِ تركيبِ الجراثيمِ المعويةِ عند الأشخاصِ المصابين بداءِ باركنسون أشارَت إلى وجودِ خللٍ كبيرٍ في التركيبِ الطبيعيِّ للجراثيمِ المعَويةِ"، وتضيف أنه "هنا وفي هذهِ النقطةِ بالتحديد لا يَعرفُ الباحثون من الذي يَنتُجُ عن الآخرِ؛ هل أنّ مرضَ الشللِ الرَّعَّاشِ يُسبب تغيراتٍ في الجراثيمِ المعويةِ، أم أنّ التغيراتِ في تركيبِ مجمعاتِ الجراثيمِ المعويةِ تعطي إنذاراً مبكراً للإصابةِ بالمرض. وما نعرفُه حالياً أنّ العلاماتِ الأولى لداءِ باركنسون، غالباً ما تظهر على شكلِ أعراضٍ معويةٍ معديةٍ كالالتهابِ أو الإمساك.
وأضافت أنّ أمعاءَ الإنسانِ تستضيف عشراتِ الترليوناتِ (الترليون= مليون مليون) من الكائناتِ الحيةِ الدقيقةِ التي تنتمي إلى أكثرَ من ألفِ نوعٍ من الجراثيمِ، والمادةُ الوراثيةُ لهذه الكائناتِ مجتمعةً تفوق بمئةِ مرةٍ المادةَ الوراثيّةَ للإنسان، ولتَوازنِ هذه الجراثيمِ المِعَويةِ أثرٌ مهمٌّ جداً في المحافظةِ على الصحةِ العامةِ، وأيُّ تغيّرٍ في التكوينِ العامِّ لهذه الجراثيمِ سوف يرتبطُ بمجموعةٍ من الاضطراباتِ الصحية.
ما العلاقةُ التي تربط بين الأمعاءِ والدماغِ؟
أشارتْ دراساتٌ سابقةٌ إلى الصلةِ القويةِ بين الأمعاءِ والدماغِ، وقد افتُرضَ أنّ العصبَ المُبهَمَ (vagus nerve)، الذي يشكّل صلةً عصبيةً بين الأمعاءِ وجذعِ الدماغِ، قد يكون الموضعَ الذي تبدأ منه إمراضيّاتُ داءِ باركنسون قبلَ انتشارِه إلى الدماغ، على الرغمِ من كونِ الآليّةِ المَرضيةِ على المستوى الخَلَويِّ أو الجُزيئيِّ مجهولةً حتى الآن. هذه الفرضيةُ مدعومةٌ باكتشافِ أنّ الأشخاصَ الذين خضعوا لجراحةٍ لإزالةِ جزءٍ من العصبِ المُبهمِ كان لديهم خطرٌ منخفضٌ لتطويرِ المرض. وكان فريقُ البحثِ قد درسَ 197 حالةً لأشخاصٍ مصابين بالباركنسون، و130 حالةً لأشخاصٍ أصحّاءَ، اعتُبروا حالاتٍ ضابطةً للمقارنة، وأشارتِ النتائجُ إلى أنّ حالاتِ باركنسون تترافق بخللٍ في التكوينِ العامِّ للجراثيمِ التي تستوطنُ القناةَ الهضميةَ، فقد وُجدت بعضُ الأنواعِ منها بأعدادٍ أكبرَ مما كانت عليه في الأفرادِ الأصحّاءِ، وبالمقابل تضاءلَتْ أعدادُ أنواعٍ أخرى، كما أظهرتِ الدراسةُ أنَّ أدويةَ الشللِ الرَّعّاشِ تُبدي أيضاً تأثيراً على تركيبِ جراثيمِ الأمعاءِ بطرقٍ مختلفةٍ، يمكن شرحُها على النحوِ التالي: تؤثّر بعضُ الأدويةِ على الجراثيمِ المعويةِ، وتسبّب تغيّراً فيها، مما يؤدي إلى التسببِ بمشكلاتٍ صحيةٍ إضافيةٍ كتأثيراتٍ جانبيةٍ، كما يمكن أن يكونَ هناك اعتبارٌ آخرُ مفادُه أنّ التنوعَ الطبيعيَّ لجراثيمِ الأمعاءِ هو ما يجعلُ البعضَ يستفيد من عقارٍ معينٍ، مقارنةً بعدم استجابةِ البعضِ الآخرِ لنفسِ الدواءِ. وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ المجالَ الذي ينمو حالياً في علمِ الصيدلةِ، والذي يُصمَّمُ فيه الدواءُ حسبَ التركيبِ الوراثيِّ للفردِ، يجب أن يأخذَ بعين الاعتبارِ تركيبَ الجراثيمِ المعويةِ أيضاً. هذا وقد جاءت مُعطياتُ الدراسةِ من ثلاثِ مناطقَ جغرافيةٍ، هي الشمالُ الشرقيُّ والشمالُ الغربيُّ والجنوبُ، وكانتِ النتائجُ مفاجِئةً لفريقِ البحثِ، الذي اكتشفَ فروقاً غيرَ متوقعةٍ في توازُناتِ جراثيمِ الأمعاءِ، كدلالةٍ على ما يعكسه الموقعُ الجغرافيُّ من اختلافاتٍ في البيئةِ و أسلوبِ الحياةِ و النظامِ الغذائيِّ، في المناطقِ الثلاثِ السابقة.
وفي سياقِ هذا البحثِ اكتُشفتْ وظيفةٌ أخرى للجراثيمِ المعويةِ، وهي أنها تقوم بتخليصِ الجسمِ من المركّباتِ الكيميائيةِ الغريبةِ، والتي لا توجدُ أو تُنتَج طبيعياً في الجسم، وغالباً ما يرتفع تركيزُها بفعل الملوِّثاتِ البيئيةِ، فقد وَجدتِ الدراسةُ دليلاً على أنّ تركيبَ مجمّعاتِ الجراثيمِ المعويةِ المسؤولةِ عن إزالةِ هذه المركباتِ العضويةِ كانت مختلفةً في الأفرادِ الذين يعانون من الباركنسون، ويمكن أن تكونَ هذه النتيجةُ وثيقةَ الصلةِ بالحقيقةِ المعروفةِ، والتي تقول بأنّ التعرضَ لمبيداتِ الحشراتِ والأعشابِ يزيد من خطرِ الإصابةِ بهذا المرض.
تقول (Payami) إنَّ "دراسةَ المجتمعِ الجرثوميِّ الحيويِّ جديدةٌ نسبياً، والفهمُ الأفضلُ لهذه المجمعاتِ قد يعطي إجاباتٍ غيرَ متوقعةٍ بشأن مرضِ باركنسون واضطراباتٍ صحيةٍ أخرى، وقد يفتح أفاقاً جديدةً تماماً، في البحثِ أو العلاجاتِ التي يمكنُها أن تنظِّمَ التوازنَ في المجتمعاتِ الأحيائيةِ الحيويةِ؛ الأمرُ الذي يمكن أن يكونَ فعَّالاً في علاجِ أومنعِ هذه الأمراضِ من أن يكونَ لها تأثيرٌ على الوظيفةِ العصبيةِ. ولكنْ من الأهميةِ بمكانٍ أن نكونَ حذرين، حتى يتوفّرَ لنا المزيدُ من المعطياتِ والنتائجِ، وتجدر الاشارةُ إلى أن هناكَ دراسةً أخرى تُجرى الآن على أفرادٍ يعانون من باركنسون وأفرادٍ أصحاءَ، في محاولةٍ لتكرارِ وتأكيدِ النتائجِ السابقةِ، التي بدورِها تدعم فكرةَ أنَّ تكوينَ مجمّعاتِ الجراثيمِ المعويةِ قد تحمل معلوماتٍ جديدةً لتقييم فعاليةِ أو سُمّيةِ أدويةِ الباركنسون. فهناك بالفعلِ حاجةٌ للقيام بدراساتٍ إضافيةٍ لتقييم آثارِ تلك الأدويةِ عبرَ دراسةِ أفرادٍ تم علاجُهم، وأفرادٍ لم يتمَّ علاجُهم بهذه الأدويةِ، ومقارنتِها مع أشخاصٍ أصحاء.
نتائجُ أخرى مهمةٌ:
إضافةً للنتائجِ التي تحدثنا عنها، هناك نتائجُ أخرى مهمةٌ:
يغيّر غيابُ الميكروبيوتا عند المضيفِ من نُفوذيّةِ الحاجزِ الدماغيِّ الدمويِّ عند الفئرانِ، ويؤثّر على خلايا دماغيةٍ غيرَ الدُّبيقِيّاتِ، والذي يمكن أن يكونَ له علاقةٌ بالتخفيفِ من أعراضِ باركنسون، كما شاهدَ الباحثون. يتأثر اصطناعُ العديدِ من النواقلِ العصبيةِ، بما فيها الدوبامين، بغياب الميكروبيوتا، إلا أنّ الباحثين لم يستقصُوا ما إذا كان ما تغيّرَ لدى نموذجِهم الفأريِّ هو عددُ العَصَبوناتِ المعبِّرةِ عن الدوبامين أو مستوياتُ الدوبامينِ نفسُها. يجد الباحثون في هذه الدراسةِ أن ميكروبيوتا الأمعاءِ ذاتُ اشتراكٍ وثيقٍ بإمراضياتِ داءِ باركنسون، ويقترحون أن ما يتواسطُ هذا الاشتراكَ هو تنظيمُ حالةِ تفعيلِ الدُّبيقيات. في النهايةِ، ستساهم معرفةُ كيفيةِ عمل المركّباتِ المنتَجةِ من قبلِ الجراثيمِ لتشكيلِ الاستجابةِ المناعيةِ في الدماغِ وتطوُّرِ ومظاهرِ التنكُّسِ العصبيِّ، في زيادةِ فهمِنا لداءِ باركنسون، وقد تفتح أبواباً جديدةً لعلاج هذا الداءِ المدمِّر.
-- -- -- -- -- --
* هو مرضٌ يصيب خلايا الدماغِ العصبيةَ المسؤولةَ عن إنتاجِ مادةِ الدوبامين، وهي مادةٌ كيميائيةٌ ترسل رسائلَ عصبيةً إلى أجزاءِ الدماغِ المسؤولةِ عن الحركةِ والتنسيق، ومع موتِ هذه الخلايا يقلُّ مستوى الدوبامين وتَظهرُ أعراضٌ حركيةٌ لا إراديةٌ مزمنةٌ تتقدم مع مرورِ الوقتِ، وحتى الآنَ لم يُعرفِ السببُ المباشرُ لهذا المرضِ، ولا يوجدُ علاجٌ فعالٌ له، إلا أنه أحياناً توجد بعضُ الخياراتِ الدوائيةِ أو الجراحيةِ للتحكُّمِ بأعراضِه.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
الورقة البحثية:
هنا