مراجعة رواية "الأرض المسطحة": رحلة استكشافية، بحثاً عن بعدٍ جديد
كتاب >>>> روايات ومقالات
الأبعاد أعمق من الطول والعرض والارتفاع، وهي قد تكون موجودة في كوكبنا. هذا ما سيناقشه كتاب الأرض المسطحة.
كتابٌ تكمن عبقريّته بالطريقة الّتي يعالج بها موضوعاً معقّداً حيث يكسره باستعارة، لنتمكّن من فهمه بسهولةٍ أكبر. إنّه يناقش إمكانيّة وجود بُعد رابع هو ليس "الزمن"!. ، من خلال قصّة كلاسيكيّة ساخرة كُتبت في القرنِ التّاسع عشر -أي عندما كان آينشتاين ما يزال طفلاً هو ونظريّة الزمكان -، قصّةٌ تقصّها أشكالٌ هندسيةٌ، تنتقد من خلالها المجتمع وعنصريّة الطبقات والأجناس، والأعراف الاجتماعية.
ليست كالنظريات التّجريدية، بل اهتمام حقيقيّ بتفسيرِها وتقريبها للعامّة بعيداً عن أيّ من العلاقات الرياضيّة، فقد تصدم للمرّةِ الأولى بأنّ الرياضيات ستكون سهلةً إلى هذا الحدّ، وستثير تساؤلاتٍ عديدة لا تنتهي بانتهاءِ الكتاب، فهي قد كتبت لكلّ شخص وكلّ زمان.
لنبدأ مع شخصيّات روايتنا سكّان اﻷرض المسطّحة:
لتتخيلَ ورقةً بيضاء ممتدّة على طولِ اﻷفق، عليها أشكال هندسيّة مسطّحة هي (مثلث، مربع، مسدس ودائرة والكثير منها) تتحرّك على هذه الورقة بانسيابيّة تامّة، وهي بطبيعةِ الحال لا تستطيع أن ترتفعَ فوق أو أن تنزلَ أسفل هذه الورقة تماماً كما هي ظلالنا على اﻷرض، فإذا تخيّلنا أنفسنا نحن البشر بلا ارتفاعٍ سنكون فقط كمجموعةٍ من الظلال.
هل لك أن تتخيلَ اﻵن أنّ تلك الأشكال هي شخصيّات تعيش على الورقة، أو باﻷحرى سكّان ﻷرضٍ غريبة تسمّى "اﻷرض المسطّحة" حيث اكتسبت اسمَها من كونها ورقة (لكونها ذات بعدين فقط).
هي شخصياتٌ تعيش، تفكّر، تشعر، وتتعامل مع بعضها كما البشر، تغضب تفرح، وتُستعبد، تعمل وتتزوج، فحياتهم ليست مملّة كما تعتقد، على الرّغم من أنّهم لا يرون غير خطوط مستقيمة مهما اختلفت أشكالهم، أي ليس لديهم أيّة قدرة على الإبصار بمفهومنا نحن، فنحن نملك ثلاثة أبعاد مكانيّة مقابل البُعدين عندهم، تسأل نفسك لماذا؟ لنقرّبها من أذهاننا أكثر.
العملة النقديّة الموضوعة على الطاولة لو نظرنا إليها من الأعلى ستكون دائرية، ولكن لو نزلنا بمستوى نظرنا قليلاً سيتلاشى شكلها الدّائري تدريجيًا متحولاً إلى بيضوي، ومن ثمّ إلى خطٍ مستقيم عندما ننظر إليها من مستوى الطاولة تماماً، فعندما تصبح جزءاً من مستوى الطاولة سترى كلّ مكوناتها كخطوطٍ مستقيمة ونقط فقط، إذاً سكان تلك اﻷرض كيف يتعرّفون على بعضهم وكيف يعيشون؟. هل ستعجب لو قلتُ لك بأنهم يستطيعون التعرُّف إلى أشكالهم وشخصياتهم وليس بطريقة واحدة فقط، هناك طرقٌ عديدة تحت علم يدرس في مدارسهم باسم (فن التعرف البصري)، سأترك ذاك كهامش للتشويق للكتاب ليعرفك عليه بنفسه.
هذه الأرض لها تصنيف اجتماعيّ خاص بحسبِ عدد الأضلاع، فكلّما ازداد عدد أضلاعك كلّما ارتفعتَ درجةً في الهرم الإجتماعي، حيث أنّ المثلثات هم الجنود، والدائرة لكونها بعدد لانهائي من الأضلاع -االلامتناهية في الصغر- هي على قمّة الهرم لتمثّل طبقة الكهنة.
الارتقاء المجتمعي وارد هناك حيث أنّ المواليد الجدد غالباً ما يولدون بزيادةِ ضلع عن الأبوين، ولكن ذلك الارتقاء محرّم على النساء المتمثلات بخطٍ مستقيم فقط، فهم من حيث تعداد الأضلاع بلا أضلاع، فهم في أسفلِ ذلك الهرم، بيد أنّهم يتمتّعون بقوّةٍ عجيبة تجعل كلّ الطبقات تحسب لهم ألف حساب!
وهذه القوة تكمن في أنّهم يتموضعون بوضعيات معينة يبدون فيها كنقطة يصعب تمييزهم وبالتّالي يسهل عليهم القتل والفتك بنهاياتهم الحادة.
وهذا بالضبط ما سيسخّر في (ثورة الألوان).
حين انتشرت الألوان في تلك الأرض ليبدأ دخول عصر الفنون، أدى ذلك إلى تبعات عديدة تضرّ بسياستها، فالألوان قد تؤدّي إلى (عدالة مجتمعية) وإزالة لفكرة التّمييز الطبقي، وهذا سيضرّ بطبقة الكهنة ويرفع من طبقة النّساء قليلاً لتكونَ فرصتهم الوحيدة للارتقاء وأخذ حقوقهم!
إذا أردنا أن نخوضَ أكثر في حكايات هذه الأرض فلنستمع للسيّد (مربع) الذي سيقصّ علينا رحلته في تعرّفه وإيمانه بالبعد الثالث ممثلاً الفرد الوحيد المبشِّر بذاك البعد في أرضه.
تبدأ حكايته من منامٍ يرى فيه نفسه في رحلةٍ إلى الأرض الخطيّة، أرض ببعد واحد، لا يعرف فيها غير التّحرك للأمامِ والوراء.
يشرح الخطُ المستقبم للمربع كيفيّة التّواصل والعيش في الأرض الخطية وطريقتهم المدهشة في التّعرّف إلى بعضهم البعض، مما يُصيب المربع بالدّهشة، فيعود ليخبر ملك الأرض (المستقيم) عن وجود بعد آخر ويحاول جاهداً أن يشرح له مامعنى البعد الثاني، أي ما معنى أن يتحركَ عن جانبه.
لكن بلا فائدة فالملك يعتبر أنّ أرضه هي الفضاء الأوسع ولا شيء خارج حدود مملكته.
لاحقًا، يحدث للسيّد (مربع) أمر غريب! إذ يهبط عليه من "الأعلى" كائن ثلاثيّ الأبعاد هو (الكرة) بحركةٍ مرعبةٍ بالنّسبة للمربع، فهو لم يرَ أحداً أتى من أيّ اتجاه من الاتّجاهات الّتي يعرفها وإنّما من بُعدٍ يجهله هو الارتفاع، هنا ستحاول الكرة أن تشرح للمربع البعد الثالث "الارتفاع" والأمر بسيط ليس أكثر من دائرة يمكن أن تتوسعَ وتختفي وتعود للظهور. فالكرة ستمثل نقطة بالبداية ثم ستشكل دوائراً تختلف أقطارها اتساعاً ثم خفوتاً إلى أن تتلاشى.
ومع كلّ ذلك لن يقتنع السيّد مربع بفكرة البعد الثالث، فتسحبه الكرة إلى العالم الثلاثي البعد ليشاهدَ عالمه من الأعلى، ويتعلّم معنى البعد الثالث (بالاتجاه والقياس) ويعرف معنى فوق، تحت، ضوء، ظل، واتجاه الرؤية!
تلك الكلمات الّتي تشكّل صلب وأساس علوم الرياضيات والهندسة وأساسيات بناء الواقع الافتراضي، هناك ستصيبك الدّهشة الحقيقية وأنت تتعلّم مع السيد مربع معنى تلك الكلمات للمرة الأولى.
وهكذا بدأت تتّضح للمربع فكرة الأبعاد، فشرع بطرحِ الأسئلة عن البعد الرابع والخامس وإلخ.. ليكتشفَ أنّ مَن يعيشون في عالمٍ ثلاثي الأبعاد هم مثله لم يسبق لهم أن فكّروا في أبعادٍ أخرى غير الأبعاد التي يعيشون فيها.
والآن، ماذا عنّا نحن؟ فبعد أن نعيشَ في عالم الأرض المسطحة، ستتسع أعيينا في دهشةِ تعلّم واكتشاف الأشياء من بدايتها، سنطلق العنان لمخيّلتنا خارج العالم الملاحظ ونتخيّل الأبعاد الجديدة التي لا نستطيع تصورها عادةً، وسنقترب من فهمها ورؤيتها أكثر من أيّ وقت مضى.
الأرض المسطحة عمل رائع وموسّع لمن أراد أن يقرأه بهذه العقلية:
"إنّ طموح المرء خير له من قناعة زائفة تعمي عينيه وتغلّ يديه".
ويبقى السّؤال هنا، هل لك أن تتخيلَ الآن الكرة الفائقة القادمة إلى أرضنا لتعلّمنا عن الارتفاع الفائق، ماذا ستفعل لتقنعنا بالبعد الرّابع؟
معلومات الكتاب:
الأرض المسطحة
تاليف: إدوين أبوت
ترجمة: سامح رفعت مهران
عدد الصفحات144
صدر أول مرة عام 1884ترجم للعربية عام 2008 من قبل مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة