زرياب حيٌّ بينَّنا: بوترهِ الخامس أسطورةُ العصرِ الوسيط، أتحفْ بهِ ذوقاً وفنَّاً
التاريخ وعلم الآثار >>>> حضارة اسلامية
أستمع إلى ما صدح به أحد شعراء العصر العباسي مادحاً مجلس زرياب وروعة اللقاء به، زرياب الفنان والموسيقار ومتخصص الذوق واللباقة والموضة، والرجل الذي ابتكر العديد من الأختراعات التي بفضلها يبان ما يسميه أصحاب الفنادق "الإتيكيت"، ففي الموسيقى؛ ليس هناك أحد بأداء زرياب، وفي الشعر؛ لا يقض القصيد رجلٌ كزرياب، وفي الغناء؛ أعذب به صوتاً رغيداً، وفي كل نواحي الفن والرسم و العمارة والطبخ وكل ما له علاقة بالفن سنجده فقط في زرياب واحد، وهو ما يبرر هيام العديدين من الذين يحبون موشحاته بالموسيقى الرشرقية عرباً كانوا أم غير عرب، فمن تراه ما يكون زرياب؟ خصوصاً أننا في زمن تعاني فيه الموسيقى الهادفة كثيراً كي تصل، لابد من التعلم من تجربة زرياب، دعونا نقترب منه أكثر.
زرياب
هو أبو الحسن علي بن نافع ، ولد في العراق عام 789 م ، لُقب بالزرياب لعذوبة صوته و لون بشرته القاتم ، فشبهه الناس بطائر الزرياب لحسن تغريده و سواد ريشه . اُشتهر زرياب بمجالات عدة فكان موسيقياً وفلكياً كما أنه عنيَ بالتذوق الموسيقي وتصميم الأزياء. كان زرياب المغني الرئيسي في قصر قرطبة لعام 822 م ،فهو المحرك الأساسي لثورة التغيرات الموسيقية و طال هذا التغير مجالات عدة كتغييرات في أسلوب الحياة وطريقة تناول الطعام والأزياء و تسريحات الشعر و امتد الى أن وصل للأثاث وأدوات المائدة في القرون الوسطى.
تتلمذ زرياب على يد الموسيقي الموهوب اسحاق الموصلي الذائع الصيت في بغداد والمفضل عند الخليفة العباسي هارون الرشيد، فبدأت موهبة زرياب تطغى على أستاذه، مما قرّبه أكثر من الخليفة وقصره. دعاه الخليفة الأموي الحكم والد الخليفة عبد الرحمن إلى الأندلس، فلبّى الدعوة واستقر في قرطبة عام 822 م في قصر الخليفة آنذاك عبد الرحمن الثاني. صادف وصوله قيام الخليفة عبد الرحمن الثاني بحركة جديدة لتحفيز الحياة الاجتماعية، الأمر الذي قاد الأندلس إلى واحدة من أكثر عصورها ازدهاراً.
وجد زرياب في قرطبة الاحترام و التقدير لفنّه ونال شهرة كبيرة وتمّ تعينه لوظيفة مغني القصر براتب شهري يُقدر بمئتي دينار ذهبي بالإضافة لامتيازات عديدة. منحته هذه الترقية فرصة عظيمة ليجمح بموهبته وبإبداعه خارج كل الحدود. لم يقم بتغييرات ثورية في مجال الموسيقى فحسب فقد قام بتحسينات ملحوظة في مجال الأزياء وأسلوب الحياة.
في المجال الموسيقى نرى بصمته التاريخية بأنه أول من أدخل آلة العود إلى إسبانيا وإلى أوروبا عموماً. كما أن الفضل يعود إليه وللكندي في إضافة الوتر الخامس لآلة العود، كما عمل على استبدال الريشة الخشبية بأخرى مصنوعة من ريش النسر.
من أعماله الخالدة أيضا أنه أسس أول معهد موسيقي في العالم، تضمن تعليم التناغم الموسيقي والتأليف الذي لم يتوقف عن التطور والنمو في القرون اللاحقة. فيما يخص النظرية الموسيقية، فقد أعاد تنظيمها بشكل كامل مبتدعاً أشكالاً جديدة للتعبير كـ (الموشح، والزجل، ومقطوعات النوبة).
يعود لزرياب الفضل في تأليف مخزون موسيقي مؤلف من 24نوبة (مقطوعة غنائية موسيقية). كل نوبة مؤلفة من مقطوعات غنائية وموسيقية منظمة في تسع حركات، وكل حركة كان لها إيقاعها الخاص. عزف أكثر من ألف أغنية يعود بعضها _وفقاً للمقري_ إلى بطليموس.
أمّا ما يخص المنحى الاجتماعي وأسلوب الحياة فقد قام بتغيير العادات الاجتماعية فيما يتعلق باللباس و تسريحات الشعر، كما طال التغيير المطبخ وطريقة تناول الطعام، فاخترع أدوات وقطع أثاث تتناسب مع هذه التغيرات في المجتمع. فقد استبدل الأكواب الذهبية بأخرى مصنوعة من الزجاج والكريستال لتنتشر من بعدها صناعة هذه المواد في الأندلس. نشر زرياب في الأندلس استخدام غطاء المائدة، وارتداء اللباس الأبيض في الصيف. كما أنه قدم وصفات طهي جديدة وأدوات مائدة وأزياء جديدة، حتى أنه نشر ألعاب الشطرنج والبولو.
بفضل انجازاته العديدة، نال زرياب الاحترام لأجيال لاحقة، ولا يزال مصدر فخر لموسيقيي العالم بشكل عام والعالم السلامي بشكل خاص، وحتى غير الموسيقيين من المهتمين بالتاريخ والموسيقى يقدرون انجازاته وما أضافه للحضارة الانسانية.نذكر ما كتبه هنري تيراس كمثال عن ذلك : بعد وصول هذا الزرياب الشرقي، هبت رياح السرور والحياة المترفة في قرطبة. جوٌ مليء بالشعر والبهجة الأنيقة كان يحيط بزرياب؛ كان يؤلف أغانيه في الليل برفقة خادمين كانا يعزفان العود. لقد أعطى فنّه قيمة غير مسبوقة، تكاد تكون سحرية، خاصةً عندما شرح المعاني الرمزية لأوتار العود.
كان يؤكد أن الأوتار الأربعة الأوائل تمثل : المرارة (مرارة المزاج)، والبرودة، والدم، والمزاج الأسود، وأن الوتر الخامس يمثل الروح.
كما كان عالماً مشهوراً بمعرفته الواسعة في الجغرافية والفلك. واللافت أنه جلب من الشرق ملحقات الحمّام (العطور، ومستحضرات التجميل، ومعجون الأسنان) وأفكاراً جديدة تركت أثراً عظيماً. و يُقال أن القرطبيين قلدوا تسريحة شعره. أطلق زرياب صيحات جديدة في عالم الموضة والأزياء، استمرت لقرون من بعده. كما أدخل إلى أسبانيا الأكواب الكريستالية والأثاث المصنوع من الجلد، و قدم تصاميم لملابس الشتاء والصيف مضيفاً ملابس للربيع والخريف.
بفضل زرياب عرفت اسبانيا الثوب الشرقي المترف. الأثر الذي تركه زرياب أدى لانطلاق صناعة جديدة تقوم على انتاج منسوجات مخططة وملونة وأغطية شفافة مازالت مستمرة حتى اليوم في المغرب.
لا ريب أن رجلاً واحداً لا يستطيع تحقيق كل هذه التحولات...إنه في الواقع التطور الذي هز العالم الإسلامي عموماً رغم أن الرواية التاريخية تنسب كل هذه التغييرات إلى شخص زرياب وداعمه عبد الرحمن الثاني.
المصدر:
هنا