ملكة الأسماك السحريّة (الثلاسيميا)
الطب >>>> قصة قصيرة
عاد الفلاح المسكين (خالد) متعباً جدّاً إلى كوخه الفقير مع غروب الشمس؛ وفتح باب الكوخ الخشبي العتيق حانياً جسده النحيل كسنبلة قمحٍ ناضجة، وبينما كان ولده (ياسر) يعدّ الطعام نظر إلى والده قائلاً:
- أهلاً بعودتك إلى المنزل يا أبي .. تبدو متعباً جدّاً .. اجلس هنا ريثما أحضر الخبز.
نظر الفلاّح إلى ولده بحبٍّ وقال له:
- مساء الخير يا ولدي.. شكراً لك على إعداد الطعام .. نعم أنا متعبٌ جدّاً وحزين.. كالعادة يا ولدي.. لقد عملتُ طوال النهار ثم جاءَ جنود الملك وأخذوا كل ما جنيته من محصول الذرة وتركوا لي هاتين القطعتين منها!
أطرق ياسر رأسه حزيناً وقال لوالده: كم كانت جزيرتنا جميلة وسعيدة! لا أعرف لماذا يتصرّف جنود الملك معنا هكذا!
خرج ياسر من المنزل صباح اليوم التالي كي يتفرّج على أبناء جيرانه وهم يلعبون، فهم اعتادوا أن يرفضوا اللعب معه لأنّ وجهه نحيلٌ وغير جميل، وتنتشر الحبوب والثآليل عليه، وجلس كعادته حزيناً على صخرة بقربهم؛ ينظر إليهم وهو يتشهّى اللعب معهم، وبينما أخذ الأولاد ينظرون إليه ويضحكون مرَّ فتىً صغير اسمه (علي) كان مشهوراً في الجزيرة بقدرته الفائقة على صيد الأسماك ومعرفته بأنواعها، وسأل الأولاد:
- لماذا تضحكون هكذا؟
ردّ أحدهم: انظر إلى تلك الصخرة.. هذا ابن جيراننا ياسر.. إنّه ولدٌ قبيح المظهر و وجهه مليءٌ بالثآليل والحبوب المُضحِكة .. ونحن لا نحبُّ أن نلعب معه!!
غضب عليٌّ جدّاً من جوابهم؛ وصاح فيهم:
- إنّ ياسر فتىً كريمٌ جدّاً؛ وهو يحبُّ النّاس كلهم ويساعدهم دائماً .. وهو أجمل منكم جميعاً .. إن كنتم ترفضون اللعب معه فأنا سأصطحبه معي إلى الشاطئ وسوف أعلمه الصيد !!
مضى عليّ إلى الصخرة التي يجلس عليها ياسر وألقى عليه التحيّة وقال له:
- كيف حالك يا ياسر؟ هل تحبُّ أن تتعلّم الصيد؟
اتّسعت عينا ياسر فرحاً وقال له بحماسة شديدة:
- نعم .. نعم أحبُّ أن أتعلّم صيد الأسماك .. أنا أعشق هذا البحر!!
وهكذا تعوّد عليٌّ وياسر أن يذهبا إلى البحر سويّاً كل يوم .. وبعد مدّةٍ قصيرةٍ أصبح ياسر صيّاداً بارعاً، وبدأ الفتية الآخرون يلعبون معه ويتحدثون إليه بلطفٍ أكبر، وذات يوم بينما هم يتشاركون اللعب ظهر جنود الملك في الحيّ، وارتسمت على وجه الفتية علامات القلق، ثم ما لبث أن اقترب جنديٌّ ضخم الجثّة منهم وأخرج ورقةً من جيبه وأخذ يقرأ بصوتٍ عالٍ:
"نداء إلى أهل جزيرتنا الكرام .. إنّ ملكنا المعظم يعلن عن جائزة كبيرة لمن يستطيع إيجاد العلاج لطفلته الوحيدة الأميرة (لين) من مرضها الغريب:
منذ أن بلغت الأميرة عامها الثاني إلى اليوم، وهي تعاني الضعف والشحوب والوهن العام، وقد كَبُرَ بطنها قليلاً.
وقد حاول الكثير من أطباء جزيرتنا والممالك الأخرى علاج الأميرة الصغيرة ولكن لم يتغير حالها، فمَن يستطيع أن يعالج الأميرة سيعطيه الملك كل ما يطلب"
وضع ياسر يده على كتف عليّ وقال له: أتمنّى لو أنّني طبيبٌ ماهرٌ كي أستطيع معرفة مرضها ثم أصنع لها الدواء المناسب!
ردّ عليّ: نعم .. إنّه أمرٌ مُحزِنٌ ومرضٌ غريبٌ! ليتنا كنّا نعرف!
ومع طلوع شمس الفجر في اليوم التالي مضى عليّ وياسر إلى الشاطئ، وهناك جلسا ينتظران الأسماك لتعلق بالسِنّارة واحدةً تلو الأخرى، وفجأةً انشدّ خيط السِنّارة بقوّة حتى كاد ينقطع فحاول ياسرُ سحبها ولم يستطع، فأحسَّ أنّ السمكة كبيرة وقبض على قصبة الصيد بكلتا يديه محاولاً سحب السمكة من الماء حتّى ركض عليٌّ إليه وأخذا يشدّان القصبة حتى خرجت سمكة كبيرة ذات ألوان غريبة وجميلة جدّاً؛ ونظرا إليها بدهشةٍ كبيرة، ثمّ صاح عليٌّ:
- يا لها من سمكة! انظر ما أجملها!
سحبها ياسرُ باتّجاهه وأخذ يحررها من الخيط فأعجبته ألوانها البهيّة وشكلها الانسيابي الجميل؛ ثم قال لعليّ:
- إنّها سمكة جميلةٌ جدّاً .. أعتقدُ أنّني سأعيدها إلى الماء!
ردّ عليّ: لا .. لا تفعل ذلك !
قال ياسر: سامحني يا صديقي .. لقد أحببتُ هذه السمكة وسألقيها في البحر!
قال علي: حسناً .. يبدو أنّك محقٌّ .. أعِدها.
رمى ياسرُ السمكة في البحر فأخذت تقفز فوق سطح الماء وتلعب أمامهما، ثم أخرجت رأسها قليلاً من الماء وقالت:
- أنا ملكة الأسماك السحريّة الملوّنة في البحار كلّها .. ولكنّني أحب العيش في البحر المتوسط قرب جزيرتكم الجميلة!
أحس ياسر وعليّ بالدهشة والقلق، وقال ياسر: يا إلهي .. إنّها سمكة تتحدّث!! .. هل سمعتها يا علي؟!
ولكنّ عليّ ركض مسرعاً يصيح: سمكة تتحدّث .. سمكةٌ تتحدّث !!
وبقي ياسر مع السمكة على الرغم من قلقه وخوفه منها، وأكملت السمكة تقول:
- شكراً لك يا ياسر.. شكراً أيها الصبي الجميل .. شكراً لأنّك أعدتني إلى وطني! إنّ تصرفّك نبيلٌ جدّاً.
أجاب ياسر بقلقٍ:
- لا داعي للشكر يا صديقتي .. لقد أعجبتني ألوانك.. ولكن كيفَ عرفتِ اسمي؟
قالت السمكة: أنا أعرف الكثير عن جزيرتكم والعالم كله في البحر واليابسة!
فكّر ياسر قليلاً ثم قال لها: وهل تعرفين ملكنا؟
السمكة: نعم أعرفه .. ولديه ابنةٌ مريضة منذ أن كان عمرها عامين!!
فتح ياسر فمه دهشةً وأخذ يتعرّق من الخوف، ثم تراجع خطوتين للوراء مفكّراً بالهرب، فقالت له السمكة:
- لا تخَف يا صديقي، أنا أعرف أيضاً أن الملك سيعطي جائزةً لِمَن يجد علاجاً لابنته، وأنا أستطيع أن أخبرك كل شيء، وذلك كي تربح جائزة الملك!
اقترب ياسر أكثر من الشاطئ، و جلس على ركبتيه وقال:
- هل حقّاً تعرفين العلاج؟! أخبريني ما مرضها؟!
قبل أن أخبرك سأمنحك ذكاءً عظيماً، ثمّ أخرجت السمكة ماءً من فمها وسكبته على وجه ياسر فأصبح وجهه جميلاً جدّاً وقد زالت الحبوب والثآليل عنه، وشعر أنّ شيئاً ما حدث داخل عقله فأغمض عينيه ثم فتحهما.
قالت السمكة له: لقد أصبحتَ جميلاً جدّاً وذكيّاً، والآن سأخبرك كل شيء!
قصّت السمكة على مسامع ياسر نوع المرض وأعراضه وطرق علاجه، ثمّ اتّجه إلى قصر الملك يمشي بثقةٍ والنّاس في كلّ مكانٍ ينظرون إليه بدهشةٍ عظيمةٍ؛ حتّى بلغ بوابة القصر؛ وتحدّث إلى الحرّاس.
أدخل الحارس ياسر إلى قصر الملك ثم وصلا إلى مجلسه، وقال الحارس بعد أن انحنى احتراماً للملك:
- مولاي المعظّم .. إنّ هذا الفتى يدّعي أنّه يستطيع علاج ابنتك!
وقف الملك غاضباً يصيح: هل أنت أحمق؟! هل يستطيع هذا الفتى النحيل الفقير أن يجد علاجاً لابنتي؟!
ثمّ اقترب الملك من ياسر وأمسكه من قميصه وقال له: إن كنتَ تكذبُ سأعاقبك عقوبة قاسية!
ردَّ ياسر خائفاً: لا يا مولاي .. أنا لا أكذب .. دعني أدخل مع أفضل أطبائك لأشرح لكم!
وبالفعل فقد دخل الملك وكبار الأطباء وياسر إلى حجرة الأميرة المريضة، وهناك بدأ ياسر بالحديث:
- إنّ سبب مرض الأميرة يا مولاي هو مشكلة في دمها .. فدماؤنا تحوي على كريّاتٍ صغيرة جدّاً اسمها الكريّات الحمراء، وهذه الكريّات تحتوي على مادّةٍ اسمها الخضاب أو الهيموغلوبين.
قال أحد الأطباء: وما هو الخضاب؟
ردّ ياسر: الخضاب هو مادّة تحمل الأوكسجين في الكريات الحمراء ثم تنقله إلى جميع أنحاء الجسم وكذلك تحمل غاز ثنائي أوكسيد الكربون إلى الرئتين.
قال الملك: وما علاقة كل هذا بمرض ابنتي؟
أجاب ياسر: أعطني أربع شرائط تزين الأميرة رأسها بها لأشرح لكم يا مولاي .. اثنان زرقاوان واثنان حمراوان..
أسرع أحد الخدم بالشرائط إلى ياسر وأعطاه إياها، ثم لفّ ياسر الشريطَين الأزرقَين حول بعضهما؛ وكذلك لفَّ الشريطَين الأحمرَين، ثم وضعهما بقرب بعضهما وقال:
"يتكون الخضاب الطبيعي من أربعة سلاسل بروتينة كهذه الأشرطة الأربعة؛ سلسلتين (ألفا) تشبهان الشريطَين الأزرقين وسلسلتين (بيتا) تشبهان الشريطين الأحمرين، تكون المورثات التي تنتقل إلينا من آبائنا وأمهاتنا مسؤولة عن تصنيع هذه السلاسل."
غضب الملك وصاح: وما علاقة كلّ هذا بمرضِ ابنتي؟! لم أفهم!
قال ياسر: صبراً يا مولاي .. إنّ غياب أو اختلال إحدى هذه المورّثات سوف يؤدّي إلى خلل في تشكُّل إحدى السلاسل (بيتا) أو (ألفا)، وهذا ما ندعوه (الثلاسيميا)! فإذا قصصتُ أنا قطعة صغيرةً جدّاً من هذا الشريط يكون ذلك (ثلاسيميا)!
اقترب طبيبٌ عجوز من ياسر وقال: ثلاسيميا؟! ما الّذي تقصده يا بنيّ؟!
أجاب ياسر: نعم ثلاسيميا؛ أي يمكن أن تقول: الخلل؛ أو يسمّونها (فقر دم البحر الأبيض المتوسط)؛ فإذا كان الخلل في هذه السلسلة الزرقاء مثلاً نقول: (ثلاسيميا ألفا) وإذا كان الخلل في هذه السلسلة الحمراء نقول: (ثلاسيميا بيتا).
قال الملك بهدوء:
- إذاً ما تقصده هو أنَّ الثلاسيميا هي خلل في السلاسل الّتي تشكل الخضاب؟!
أجاب ياسر: نعم، لذلك كلما ازداد عدد المورثات المفقودة أو ازدادت شدة الخلل فيها؛ تزداد شدة أعراض الثلاسيميا، وهنا يمكن تصنيفها إلى ثلاسيميا صغرى و وسطى و كبرى، أي يعاني الخضاب من خلل في أداء وظيفته بنقل الأوكسجين.
Image: SYRRES
سأل الطبيب مجدّداً: وما علاقة هذا بضعف الأميرة وشحوبها؟
أجابه ياسر: إنّ الخلل في وظيفة الخضاب يسبّب أعراض الثلاسيميا مثل الوهن العام والضعف والشحوب وتأخر النمو وكبر حجم البطن وتشوه عظام الوجه، فتجد أن ملامح الإنسان المريض بالثلاسيميا غريبةٌ ومميزة؛ ولكن أميرتنا المبجّلة لا تعاني من كل هذه الأعراض.
وقف الملك متحيّراً وقال:
- لكن ابنتي كانت جميلةً جدّاً عندما وُلِدَتْ؛ فكيف حدث هذا؟
رد ياسر: تنتقل الثلاسيميا يا مولاي من جيلٍ إلى آخر وقد تظهر الأعراض بعد الولادة مباشرة وذلك في الحالات الشديدة، أو أثناء أول سنتين من الحياة، وقد لا تظهر الأعراض إطلاقاً عندما تختلُّ مورثة واحدة فقط ويدعون هذه الحالة (خلّة الثلاسيميا).
سأل الطبيب العجوز مجدّداً:
- وما هو العلاج؟
سكت ياسر قليلاً والجميع ينتظر إجابته ثم قال:
- إن العلاج مرتبط بشدّة الحالة المرضية وإنما يعتمد على نقل الدم المتكرر وتناول أدويةٍ للتخلّص من عنصر الحديد المنقول مع الدم تُسمّى (خالبات الحديد)؛ وفي بعض الحالات يزرع الأطباء نقي العظم داخل العظام؛ ومع أنّها صعبة الإجراء ولكنّها تعطي نتائج جيّدة في حالات معيّنة؛ وهناك طرقٌ أخرى ولكن ما أعرفه أنّنا يجب أن ننقل دماً مناسباً للأميرة!
فقال الجميع معاً: وكيف ذلك؟
ياسر: يجب أن نذهب جميعا إلى شاطئ البحر لأرى صديقتي ملكة الأسماك السحريّة وهي قادرة على فعل ذلك.
مضى ياسر مع الملك وموكبه المهيب إلى شاطئ البحر؛ وأخذ ينادي صديقته في البحار؛ وبعد لحظاتٍ أخرجت السمكة رأسها فوق سطح الماء وقالت:
- تحيّتي للملك المعظّم وتحيّتي لكم جميعاً؛ أعرف لماذا جئتم؛ والآن سأنقل بعض الدم المناسب إلى جسد الأميرة ولن تشعر بأي ألم؛ وسأعطيها دواءً يخلّصها من عنصر الحديد الزائد.
مع مرور الوقت بدأت الأميرة الصغيرة (لين) تستردّ عافيتها وتخرجُ إلى اللعب في حديقة القصر بكل نشاطٍ وفرحٍ؛ وعادت السعادة تغمر قلب الملك مجدّداً فاستدعى ياسر إلى قصره وقال له:
- أنا ممتنٌّ جدّاً لك يا ياسر .. لقد أنقذت حياة ابنتي؛ وأنا سأمنحك المكافأة الّتي تريد .. ما الذي تحب أن أعطيك؟
أجاب ياسر: مولاي المعظم .. أشكرك جدّاً .. ولكنّني لا أريد شيئاً لي.. بل أنت تعرفُ يا مولاي أنّ جنود جزيرتنا يجمعون كل شيءٍ من الناس .. محاصيلهم وما يصنعونه ويصطادونه ولا يتركون لهم إلا القليل منه .. ولذلك فالنّاس في جزيرتنا تعساء جدّاً .. فهل تسمح يا مولاي أن تأمر الجنود بالتوقف عن هذا حتّى يعود النّاس سعداء ..مثلما استطاعت هذه السمكة السحريّة بعطائها أن تسعد قلبي وقلبك؟
صمت الملك قليلاً وقال: أنت على حقٍّ يا ياسر .. سوف آمر الجنود اليوم ألّا يفعلوا ذلك مجدّداً حتّى تعمَّ السعادة في جزيرتنا.