العثورُ على المادّةِ المفقودةِ في الكون!
الفيزياء والفلك >>>> علم الفلك
يَعتقِدُ العلماءُ أنّ الكونَ يتألّفُ بنسبةٍ تُقدّرُ بنحو 95% من المادّةِ المُظلِمةِ والطاقةِ المُظلمةِ (اللتين لا نَعرفُ عنهما إلا القليل جدًا)، في حين أنّ المادّةَ العاديّةَ الّتي نعرفها (والتي تتألف من البروتونات والنيوترونات، ويُسمّيها العلماءُ الباريونية) لا تُشكِّل إلا نحو 5% من الكون؛ أي إنّ كلّ ما نراه ونعرفُه حولَنا من أصدقاءٍ وأقاربَ وأثاثٍ ومأكولاتٍ وألعابٍ وغابات وحيوانات ودول ودِبَبَة الباندا … إلى الكواكبِ والنجوم والمجرّات والعناقيد المجريّة في الفضاء... لا يُشكّل إلا جزءًا صغيرًا جدًا من كتلة الكون. نحنُ لا نعرفُ ما هي المادّةُ المُظلمةُ بالتّحديد، ولا نعرفُ ما هي الطّاقة المُظلمة أيضًا، لكنّنا نعلمُ أنّه يجب أن تُشكِّلَ المادّةُ العاديّةُ "الباريونيّة" نحو 5% بالمئة من الكون. الشّبكة الكونيّة أمّا إشعاعُ الخلفيةِ الكونيّة CMB فهو عبارةٌ عن توهُّجٍ خافِتٍ من الضوءِ غير المرئيّ الّذي يَملأُ الكونَ ويُشّعُ على كوكبنا من جميعِ الاتجاهاتِ بالشّدة نفسها. إنَهُ التوهّجُ الّذي خلّفهُ الانفجارُ العظيمُ مُنذ 14 مِليار سَنة. وهو أقدَمُ ضوءٍ يُمكِنُنا رصدُه ، بل أبعدُ وأقدمُ ما يُمكننا مَعرِفَتُهُ حاليًا. هذا الضوء الّذي سافرَ إلينا في رحلةٍ استغرقت نحوَ 14 مليارِ سَنة، قبل وقتٍ طويلٍ جدًا مِن وجودِ كوكبنا أو حتَى مَجرَتِنا هو ما تَبقّى من طفولَةِ الكون. في ذلك الوقت لم يكن الكون مُظلِمًا وباردًا كما هو الآن، بل كان يَعصِفُ بالإشعاعات والجُسيّمات الأوليّة. أمّا الأشياء المألوفة التي تحيطُ بنا اليوم من نجومٍ وكواكِبَ ومَجرّات وما شابه ذلك، فقد تشكّلت في نِهايَةِ المَطاف مِن هذه الجُسيمات الأولية عِندما تَمدّدَ الكونُ وانخفضَت حرارتُه. خريطة إشعاع الخلفية الميكروية الكونيّة تتأثرُ فوتونات الخلفيةِ الكونيّةِ الميكرويّة أثناءَ سفرها في جميع أنحاءِ الكون بالمادّة الّتي تصادِفها. فعندما تُعبر هذه الفوتونات عنقودًا مجريًا، فإنّها تتأثّرُ بالإلكترونات الحرّة الموجودة في الغاز الذي يملأ الفضاءَ بين المجرّات، مما يُعيدُ توزّعَ طاقةِ الفوتونات بطريقةٍ مميزةٍ جدًا، وبما أنّ الإلكترونات الساخنة في الشّبكة الكونيّة هي أكثر نشاطًا بكثيرٍ من فوتونات الخلفيّة الكونيّة الميكروية،فإنّ التفاعلَ بينهما سيؤدي إلى تبعثرِ الفوتوناتِ وازديادِ طاقتها. وهذا ما يُسمّى تأثير "سونيايف زيلودوفيتش"، وبالفعل هذا ما وجده الباحثون في كلا الفريقين! بحثَ الفريقان عن تأثير "سونيايف زيلودوفيتش" اعتمادًا على بياناتِ خريطةِ الإشعاع الكونيّ الميكرويّ CMB الّتي التقطها قمر مهمة Plank الصناعيّ. وقد اختارَ كلّ فريقٍ زوجًا من المجرّات لِدراسةِ الفضاءِ الفاصل بينهما. وبما أنّ تأثيرَ "سونيايف زيلودوفيتش" صغيرٌ جدًا، لم تكن هذه الدراسة سهلةً على الإطلاق! تمكّن الفريقان من العثورِ على أدلّة قد تؤكّد وجودَ الخيوطِ الغازيّةِ النظريّة بين المجرّات، وتؤكدُ كلتا المجموعتين أنّ النتائج التي توصلت إليها تثبتُ وجودَ المادة الباريونية المفقودة، وبالتالي حلّ اللغز الذي طالما حيّر العلماء. إنّ إيجادَ الباريونات المفقودة الّتي تنبّأ بها العلماء منذ وقتٍ طويلٍ هو أمرٌ مهمٌ جدًا ومثيرٌ للاهتمام، فهو يثبت أنّ الفيزياء الّتي نعرفُها والطريقة الّتي نرى بها الكون وفهمنا للانفجار العظيم وطريقة تشكّل المجرّات والعناقيد المجريّة وكل هذا؛ هو فهم صحيح إلى حدّ كبير. المصادر: 1- هنا 2- هنا 3- هنا 4- هنا 5- هنا
وقد قاسَ العُلماءُ كتلةَ المادّةِ الباريونيّة الّتي وجدُوها في الكون حتى الآن، فكانت المفاجأةُ أنّ كلّ ما وجدُوه من مادّةٍ باريونيّة يشكِّلُ فعليًا أقلّ من نصفِ الكميّةِ المُفترضِ وجودها وفقًا للنموذج الكونيّ القياسيّ (نموذج الانفجار العظيم)، في حين أنّ ما تبقى مفقوداً ولا نعرف أين هو!
أين هي المادّة المفقودة؟ ولماذا هذا التناقضُ بين النماذجِ النّظريةِ وما هو موجودٌ فعليًا؟
اشتبهت بعضُ النظرياتِ منذُ فترةٍ طويلةٍ بأنّ كلّ هذه المادّة المفقودة (من بروتونات ونيوترونات) توجد في شبكةٍ ضخمةٍ من الخيوطِ الغازيّةِ المنتشرةِ في الفضاءِ بين مجرّةٍ وأخرى تُسمّى "الشبكة الكونيّة"، إلى أن قررّت مجموعتان بحثيّتان اختبارَ هذه الفرضيّة، وقد خَلَصُوا إلى أنّها صحيحةً في الواقع!
لم يتمكّن أحدٌ من رؤيةِ هذا الغاز من قبل، إذ إنّه ليس كثيفًا ولا حارّاً بما فيه الكفاية لتتمكّنَ تلسكوبات الأشعةِ السّينيّة من رصده، ولذلك يمكنُ أن يكونَ المكان الأنسب لاختباءِ المادّة الباريونيّة المفقودة.
عزمَ الفريقان البحثيّان على إيجادِ هذه الخيوطِ الغازيّةِ الّتي تربطُ بين المجرّاتِ بالرّغم من عدمِ تَوفّرِ التكنولوجيا والأدوات الّتي تمكّنهما من ذلك. وللتغلب على مشكلة عدمِ القدرةِ على رؤيةِ المادّة الباريونيّة مباشرةً، اعتمدَ الباحثون على إشعاعِ الخلفيّة الكونيّة الميكرويّ وظاهرةٍ تُسمّى تأثيرَ "سونيايف زيلودوفيتش" أو Sunyaev-Zel'dovich effect.
إنّ هذا الإشعاعَ المُتبَقّي أمرٌ بالِغُ الأهميَةِ بالنسبةِ لِعلمِ الكونيات؛ لأنَهُ يَحمِلُ البصمَةَ الأحفوريّة لهذهِ الجُسيّماتِ الأولية، فهوَ مخططٌ يُعبّرُ عن الاختلافاتِ الضئيلةِ جدًا في كثافةِ الكونِ عَقِب الانفجار العظيم، ويمكنُنا مِن خِلاله معرفةُ معلوماتٍ مُهمةٍ عن الكون، تمامًا مِثلَ تَحديدِ هويةِ المُشتَبهِ بِه مِن بَصماتِه.
Image: SA, Planck Collaboration
فإذا تبعثرت كميّةٌ كافيةٌ من هذه الفوتونات في الشبكة الكونيةّ، ينبغي أن يظهرَ دليلٌ على ذلك في الخلفية الكونيّة الميكرويّة في المناطق الّتي تربطُ بين المجرّات. وإذا تمكّنَ العلماءُ من قياسِ هذا التأثير فإنّه قد يوفّر معلومات عن خصائص المادّة الموجودة في الشبكة الكونيّة على نحوٍ أوضح من البيانات التي تلتقط بالأشعة السينيّة.
Image: ESA/Planck Collaboration
تأثير "سونيايف زيلودوفيتش" على الخلفية الكونيّة الميكرويّة
فقد وجبَ على كلا الفريقين أن يُكرّروا الاختبارَ على العديدِ من المجرّات من أجل جمعِ المزيد والمزيد من البيانات للتحقق فيما إذا كانت المادّة الباريونية موجودة حقًا في الخيوطِ الضّخمةِ للغاز المنتشر بين المجرّات. كرّر كلّ من الفريقين هذه العملية على عدّةِ أزواجٍ مِن المجرّات، حتى إنّ أحدَ الفريقين كرّر الاختبارَ على مليون زوجٍ من المجرّات، في حين كرّر الآخر الاختبار على نحو 260،000 زوج.