مُهاجرو المُناخ… بين الحاضر والمستقبل
الطبيعة والعلوم البيئية >>>> علم البيئة
شهدَ التّاريخ العديدَ من موجات الهجرةِ الجماعيّةِ؛ إذ تنقّلَ كثيرٌ من شعوبِ الأرض من مناطقَ إلى أخرى لأسباب متنوّعةٍ؛ من حروبٍ ومجاعاتٍ وظروفٍ اقتصاديّةٍ قاهرةٍ وكوارثَ بيئيّة، وتُعدُّ الحروبُ من أشهرِ تلكَ الأسباب؛ لكنْ وفي الفترات الأخيرة من التاريخ دخلتِ الطّبيعةُ قائمةَ مُسبِّبي الهجرة، عن طريق الكوارثِ الطّبيعيّة والتّغيُّر المُناخيّ الذي يحرّكُ الأنظمةَ البيئيّةَ للدولِ دافعاً سكّانها إلى النّزوح.
يمتدُّ مفهومُ الهجرةِ ليشملَ نوعين رئيسيّين هما: الهجرةُ الدّاخليّة والهجرةُ الخارجيّة، إذ يندرجُ التنقّل إلى مسافاتٍ قصيرةٍ ضمن حدودِ الدولةِ تحت مفهوم الهجرة الداخليّة كانتقال سكّانِ الرّيف إلى المدن، والذي يحصلُ دوماً بحثاً عن فرصِ عملٍ ومعيشةٍ أفضلَ، وكمثال عليها ما حصل في الصّين خلالَ السّنواتِ الخمس والثّلاثينَ الماضية، إذ تنقّلَ ما يقاربُ مثتيّ مليون شخصٍ من المناطق الريفيّة إلى الحضريّة، ونتيجةً لاحتواءِ المدن أساساً على نصفِ سكّانِ العالم؛ فإنّ هذه الهجرةَ وتزايدَ أعداد السكّانِ سيؤدّيان دوراً مهمّاً في كيفيّةِ تعاملِ المدن والسكّان مع التّغيُّر المُناخيّ، إذ تنبّأ سياسيٌّ بريطانيّ أنّ موجاتِ الهجرةِ التي نشهدها حاليّاً ماهي إلا نماذجُ مصغّرةٌ عمّا سيحدثُ في المستقبلِ إن لم نُوقفِ التّغيُّر المُناخيّ!
والنّوع الآخرُ هو الهجرةُ الخارجيّة، أي تنقّلُ مجموعةٍ من السكّان من دولةٍ أو قارّةٍ إلى أُخرى، مثل معظم موجاتِ الهجرةِ الحاصلة في التاريخ المعاصر، والتي تحدثُ نتيجة الحروب وظروف البلدِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والتّعليميّةِ على وجهِ الخصوص، إذ يهاجر كثير من الشباب نحوَ الدول المتقدّمةِ سعياً للفرصِ التّعليميّةِ والعمليّةِ المميَّزة، أو نتيجةَ الكوارثِ الطبيعيّة مثل ارتفاعِ منسوبِ مياه البحر في بعض المناطق الساحليّة ممّا جعل هذه المناطق غير آمنةٍ وغير صالحةٍ للاستثمار جيّداً، وتُعدُّ الهجرةُ الأفريقيّةُ إلى أمريكا الشماليّة من أهمّ موجاتِ الهجرة المُتأثّرة بالتّغيُّر المُناخيّ، إذ نتجت عن التّغيّراتِ السّريعةِ في درجات الحرارة في القارّة السّمراء؛ والتي أدّت إلى تحوّلِ كثيرٍ من المناطق الزّراعيةِ إلى أراضٍ غير صالحةٍ للاستثمار.
على الرغم من ارتباط كثيرٍ من المؤشّرات البيئيّة بالقضايا السكّانية والاقتصادية الأُخرى، لكنّها غالباً مُغيَّبة عن الاهتمام إذ إنّنا لا نكترث عادةً بمعدّلِ ذوبان ثلوج القطبين وارتفاعِ منسوب مياه البحر المُترتِّبين عليها، والأعدادِ الهائلة من السكّان المهدَّدين بكوارثَ مُرتبطةٍ بالتغيّرِ المُناخيّ؛ مثل حرائق الغابات أو الجفاف أو غرق بعض المدن الساحليّة، وللتأكيدِ على هذه الجوانب درست مُنظَّمة الهجرة الدولية IOM -وهي أكبر مُنظَّمة دولية تُعنى بشؤون الهجرة- بيانات النزوح والتنقّل الناتجِ عن الكوارث الطبيعيّة والمُناخيّة، لتجد أنّه ما يقارب المليار شخص سيكونون على طريق الهجرة بحلول عام 2050 وربّما يتضاعف هذا العدد بحلول عام 2100 نتيجةَ الظروف المُناخيّة والبيئيّة الصعبة، والتي تبدأ من انخفاض خصوبة التُرب الصالحة للزراعة مروراً بانخفاض منسوب المياه في أيّة منطقةٍ وانتهاءً بحرائقِ الغابات والفيضانات، إذ تُقسَّم هذه الظروف إلى ظواهرَ بيئية ومُناخيّة سريعةٍ ومباشِرةٍ مثل الزلازل والأعاصير التي تؤدّي إلى نزوحٍ مباشِرٍ لمجموعاتٍ كبيرةٍ من السكّان إلى مناطقَ آمنة -وإن كان هذا النزوح مؤقّتاً إلّا أنّه يُحتَسب ضمن موجات الهجرة الداخليّة عادةً- وظواهرَ بطيئةٍ كالتي تَكلَّمنا عنها مثل التصحّر -الذي يصيب أجزاءً من قارّة إفريقيا دافعاً بمزيدٍ من السكّان إلى الهجرة نحو مناطقَ أكثر خضرةً داخل البلد أو خارجه- أو انخفاض منسوب المياه في بعض الدول كالأردن وسورية والذي يسبّبُ الهجرة التدريجيّة نحو المناطق الغنيّة بالمياه.
ومع أنّ التغيّر المُناخيّ لا يؤدّي الدور الرئيسيّ في إحداث موجات هجرة، لكنّه يرتبط في كثيرٍ من الحالات مع الأسباب الأُخرى الأساسيّة، مثل الهجرة التي حدثت في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشر خلال "حرب القرم" عندما منعت فرنسا الصادرات الغذائية إلى ألمانيا، ممّا أدى إلى حدوث أزمةٍ كبيرةٍ في ألمانيا دفعت السكّان للهجرة إلى أمريكا الشماليّة نتيجةً لمناخ ألمانيا الفقير بالأمطار في تلك الفترة والذي حالَ دون اعتماد السكّان المحليّين على الزراعة رافعاً حاجتهم إلى الواردات من الدول المجاورة والتي امتنعت فرنسا عن تقديمها، إلى جانب الكارثة التي تسبّبت بها الثورات البركانية في إندونيسيا عام 1816 والتي أدّت إلى موجات هجرةٍ عُظمى باتجاه أمريكا وتكرّرت هذه الموجة خلال عام 1846 بعد السنوات الحارّة والجافّة التي ضربت مناطقَ كثيرةً من سطح الأرض.
ومع أنّنا تكلّمنا أساساً عن تأثير التغيّر المُناخيّ على موجات الهجرة، لكنّ هذه الموجات تؤدّي أحياناً إلى تغييراتٍ في المناخ والأنظمة البيئيّة لبعض الدول أيضاً، إنْ كانتِ الدول التي هاجروا منها أو إليها أو عبروا أراضيها، إذ تُفهَمُ الهجرة المناخيّة في معظم الأحيان على أنّها فشلٌ في التأقلُمِ مع الظروف المُناخيّة الجديدة، لكنّها في الواقع قد تكشف عن استراتيجيّات أُخرى للتأقلم في مناطقَ أُخرى وخاصّة للمهاجرين أنفسهم.
كيف ينظر المُجتمَع الدوليّ لمهاجري المناخ؟
تختلف الآراء حول الصفة التي سيُعامَلُ بها مهاجرو المناخ، وحول منحهم الحقوق القانونيّة نفسها لمهاجري الحرب، وقد بدأتِ العديد من المُنظَّمات المُتخصِّصة بالتحرّك في هذا السياق؛ إذ أطلقتِ اللّجنة الدولية للتغيّرات المناخية عام 1990 أوّل تقريرٍ مُتخصِّصٍ بتأثيراتِ الاحتباس الحراريّ، وصرّحت بأنّ الهجرة البشرية ستكون أكبر آثار هذا التغيّر، لكنّ نقص الأبحاث المُتعلِّقة بهذه القضيّة وغيابَ البيانات الحقيقيّة عن ارتباط الهجرة بالتغيّر المناخيّ حالا دون عَدِّ هذه الظاهرة شأناً دوليّاً أساسيّاً، ومع ذلك فقد عادت هذه الظاهرة إلى الواجهة خلال عام 2017 في مُؤتمَرِ الأممِ المتّحدة السنويّ حول التغيّر المُناخيّ في مدينة بون الألمانية، إذ صرّح وزير نيوزيلندا للتغيّر المُناخيّ عن إمكانيّة إصدار تأشيراتِ سفرٍ وإقامةٍ خاصّة بمهاجري المُناخ؛ خاصّةً بوجود مهاجرين يصلون نيوزيلندا باستمرارٍ هرباً من التغيّرات التي تطالُ مواطنهم في المحيط الهادئ، ليوافق بعده "تحالف الهجرة والمناخ" البريطانيّ على هذا التصريح مع اقتراح تعديل التأشيرة لتشمل الأوضاع الإنسانيّة الصعبة كافّة.
ولنكون واضحين أكثر، ربّما نكون نحن من ضمن هؤلاء المهاجرين في المستقبل القريب، متأثّرين بما يطال مناطقنا من جفافٍ وتصحّرٍ وغيرها من الظروف البيئيّة المتغيّرة، فأين جهودنا ضمن كل الجهود الدوليّة؟ وماذا سنفعل لتجنّب حوادثَ مماثلة؟
المصادر: