موسيقا البرنامج
الموسيقا >>>> موسيقا
وترتبطُ موسيقا البرنامج بالنظريةِ المرجعيةِ للموسيقا، وتقولُ هذه النظرية إنَّ المعنى الحقيقي للموسيقا يوجدُ خارجَ الموسيقا؛ أي إنها لا توجدُ في نسيجِ أصواتها ولا في العلاقاتِ بين هذه الأصوات، بل في المشاعرِ والأفكارِ والأحداث. وعلى النقيض من ذلك؛ نجدُ الموسيقا المُجرَّدةَ (الإستيطيقية) التي لا تؤمنُ بأيِّ بعدٍ تعبيريٍ في الموسيقا ولا تسعى إلى التعبيرِ عن معنىً عاطفيٍ أو دراميٍ، وإنّما يأتي تذوُّقُ الموسيقا من خلال تجربةٍ ذهنيةٍ رفيعةِ المستوى تجمعُ بينَ أفكارٍ موسيقيةٍ رياضيةٍ وعقلية في لعبةٍ تجريديةٍ أشبه بلعبة الشطرنج .
وأمَّا عن مبتكرِ تعبيرِ(موسيقا البرنامج) فهو المؤلفُ "فرانز ليست" الذي عدَّ أنَّ القصيدةَ السمفونيةَ هي التمثيلُ الأقضلُ لموسيقا البرنامج، واعتقد "ليست" أنَّ الموسيقا تستطيعُ أن تضعَ المستمعَ في الحالةِ النفسيةِ ذاتها التي تخلُقها المواضيعُ، وتستطيعُ أن تصفَ الإيحاءَ العاطفيَ للأشياء.
كتبَ مؤلفو عصرِ النهضة عدداً لا بأسَ بهِ من موسيقا البرنامج خاصةً آلة الهاربسكورد كمقطوعة William Byrd’s - The battle والتي تصفُ معركةً تبدأُ بتحضيرِ الجنودِ ثم أصواتِ الجنودِ المشاة وصولاً للاشتباك وانتهاءً بالانتصارِ في المعركة. ومن الأمثلةِ الشهيرةِ على موسيقا البرنامج ختامُ السمفونية السادسة لجوستاف ميلر؛ إذ تصوِّرُ المطرقةُ الكبيرةُ - التي تضرب ثلاثَ ضرباتٍ شرسةٍ في ختام السمفونية - اللحظاتِ الأخيرةِ من وفاةِ ابنته إثرَ أزمةٍ قلبية.
ومن الأمثلة التي تجسَّدتْ فيها موسيقا البرنامج في حِقبٍ مبكرةٍ كونشيرتوات (الفصول الأربعة) لـِ "فيفالدي"، أمَّا في الحقبة الكلاسيكية فكانت إحدى سمفونيات "هايدن" تحوي حواراً قيلَ على لسانهِ إنها تمثلُ (حواراً بينَ الله ومرتكب الخطيئة).
وفي الحقبةِ الرومنتيكيةِ تطوَّرتْ موسيقا البرنامج فبدأَ المؤلفون بوضعِ المستمعِ في تجربةٍ معينةٍ تحوي دلالاتٍ وأحداثاً أو إيحاءاتٍ بدلاً من كتابةِ موسيقا مطلقة أو مجردة ليس لها دلالاتٌ خارجَ إطارها، وكان تطورُ الأوبرا قد ساعدَ المؤلفينَ على التشديد على الجانب العاطفي والحياتي في الموسيقا. وقد أكدّتِ الحركة الرومنتيكية التفرُّدَ والذاتيَّةَ، واعتنتْ موضوعاتُها بصراعاتِ الإنسانِ وانفعالاته، واتجهتْ نحوَ غموضِ الحياةِ والتركيزِ على دواخل الإنسان، والبعدِ الميتافيزيقي في الموسيقا.
وأمَّا فيما يخصُّ "بيتهوفن" فقد راودتْهُ الشكوكُ حينَ حاولَ كتابة موسيقا برنامج، لكن في سمفونيته السادسة عُدَّ العملَ وصفاً للأحاسيسِ أكثرَ منه رسماً بالصوت، وتتجلَّى موسيقا البرنامج في أعمالِ "بيتهوفن" في عدةِ مقطوعاتٍ منها سوناتا (الوداع) والسمفونية التاسعة.
ومن المؤلفين البارزين في وضع موسيقا برنامج "ريميسكي كورساكوف"، فقد احتوى عملُه (شهرزاد) المقتَبسُ عن "ألفِ ليلةٍ وليلة" العديدَ من الحكايات؛ مثل حكاية "السندباد البحَّار".
ويُعتَقد أنَّ "شتراوس" هو الأفضلُ في الوصفِ الموسيقيِ الذي يتجلَّى في عددٍ كبيرٍ جداً من القصائدِ النغميةِ مثل (دونجوان) و (دون كيشوت) و (حياة بطل) التي يُعتقد أنها أشبهُ بسيرةٍ ذاتيةٍ لشتراوس نفسه حتى إنَّ "شتراوس" قال مرَّةً: (إنَّ الموسيقا تستطيعُ أن تصِفَ أيَّ شيء، حتَّى ملعقة الشاي!).
وفي القرن العشرين؛ تراجعتْ مكانةُ موسيقا البرنامج بسببِ ولادةِ النزعات المعارِضة للرومنتيكية، وبدلاً من ذلك تزايَدَ ظهورُ الأعمال الموسيقية الوصفية.
وهناك أعمالٌ موسيقيةٌ ذاتُ غرضٍ من وراءِ تأليفها، وعندما يكونُ الغرضُ محدَّداً بدقة تُعَدُّ مبرمجةً تماماً، وذاك خلافاً للموسيقا المطلقة. وتقعُ موسيقا البرنامج ما بينَ الاثنين من حيثُ الهدف، ويميلُ المستمعُ إلى إيجادِ جدوى ومعنى حتى للأعمال الموسيقية المجرَّدة؛ لأنه - ببساطةٍ - يمكنُ للموسيقا أن تعبِّرَ عمَّا تعجزُ اللغةُ في التعبيرِ عنه، فيمكنُ للمستمع افتراضُ قصصٍ واختلاقُ صورٍ ذهنيةٍ أو وصلُ الألحان بطابعٍ لونيٍ أو انفعالٍ عاطفيٍ يعودُ إلى تجربةِ المستمعِ الشخصية من دونِ معرفةِ ما يقصدُ المؤلفُ الموسيقي حقاً من وراءِ هذا العمل.
المصادر:
1-هنا
2-هنا
3-و عن كتاب (شذرات في الموسيقا)_ مجموعة مقالات، محمد حنانا. بتصرف.