يبدأُ الكاتبُ رحلةََ الاستقصاءِ بلحظةِ لقائِه بالاكتئابِ كمراهقٍ وجدَ نفسَه يبكي بلا سبب، ضائعاً في غمامةٍ من الأسى وتبلّدِ الأحاسيس. ظنَّ أنّها عابرة. لربما يمرُّ كلُّ الناسِ بمرحلةٍ كهذهِ ثم لا يلبثُ الضبابُ أن ينجلي. ولكنّها لم تكُنْ عابرةً بالنسبة إليه، بل قادتْه إلى الطبيب النفسانيّ الذي وصفَ له مباشرةً أدويةً مضادةً للاكتئاب من عائلة الـ SSRI's (مثبطات قبط السيروتونين الانتقائيّة)، وهي العائلةُ الشهيرةُ نفسُها التي تنحدرُ منها أدويةٌ مثل: zoloft و Prozac.

وعلى الرغمِ من التأثيراتِ الجانبيّةِ الهائلةِ من زيادةِ الوزنِ وضعفِ القدرةِ على التركيز، فإنّه استطاعَ بمعونةِ هذه الأدويةِ أن يستعيدَ قدراً من حياتِه الطبيعية. وهنا بدأتْ علاقتُه طويلةُ الأمدِ مع مضادات الاكتئابِ الّتي كانتْ بمثابةِ العصا الّتي يتّكئُ عليها لتساعده على مواجهةِ الحياة، فتنصرُه احياناً وتخذلُه احياناً أخرى.

بهذه المقدّمةِ الشخصيّةِ يبدأُ كاتبُنا قصّتَه، فيخبرُنا بالحوافزِ الّتي دفعته لأن يخطوَ خطوتَه الأولى في البحثِ عن إجاباتٍ لأسئلتِه: هل الاكتئابُ اضطرابٌ قائمٌ بحدّ ذاته؟ أم أنه عَرَضٌ لاضطراباتٍ أُخرى في حياتِنا؟ وهل يصحُّ أن نعتمدَ النظرية الكيميائيةَ في تفسيرِ الاكتئابِ ونهملَ الوجوهَ الاجتماعيّةَ والثقافيّةَ والاقتصاديّةَ التي من الممكنِ أن يكون لها تأثيرٌ أكبرُ على هذه الظاهرة؟ من خلال الاعتمادِ على أحدثِ ما توصّلت له الدراسات، والبحثِ العميقِ والمطوَّلِ، يقدّمُ لنا الكاتبُ ما خلصَ إليه في نهايةِ رحلته في هذا الكتاب، آملاً أن يكونَ حجرَ الأساسِ في بدءِ الحوارِ من جديدٍ حول اضطرابِ الاكتئاب، علّنا نجدُ حلولاً أُخرى أكثرَ جدوىً ممّا بين أيدينا حالياً.

أسبابٌ محتملة:
وجدَ جوهان هاري في نمطِ حياتِنا بعضَ العواملِ التي قد تكونُ سبباً للاكتئاب، مثل: الابتعاد عن العمل ذي المعنى، والعزلة عن الناس، الابتعاد عن القيم، محاولة تجاهلِ أزماتِ الطفولة، الابتعاد عن الطبيعة، غياب الاستقرار والرؤية الواضحة للمستقبل.

يعرضُ جوهان حجّته باستخدامِ قصصٍ واقعيّةٍ وأدلّةٍ تعتمدُ على دراساتٍ حديثة. وبعدها ينتقلُ ليقدّم مجموعةً من الاقتراحاتِ لمعاكسةِ هذه الأسباب على النسق نفسه.

نقد الكتاب:
أعترفُ أنني قرأتُ الكتاب ممنّياً النفسَ بالعثورِ على وصفةٍ سحريّةٍ أو مجموعةٍ من النصائحِ سهلةِ التطبيق التي قد تساعدني على تحسينِ حياتي. إلا أنّ الكاتبَ حذّرَ منذ البدايةِ أنّ من يقرأ الكتابَ متّبعاً هذه النية سيخيبُ ظنُّه، إذ أنّ الحلولَ المقترحةَ في القسم الثاني من الكتابِ لا يمكنُ تطبيقُها بسهولة، وهي بالمجملِ عامّةٌ وتتطلّبُ من المنظماتِ والحكوماتِ أن تأخذَ على عاتقِها مسؤوليةَ تطبيقِها لتحظى بالنتيجةِ المرجوّة.
كما أنّه من السهلِ على الكاتبِ أن يتحيّزَ أثناء بحثِه فيختارَ الدراساتِ الّتي توافقُه الرأي ويتجاهلَ تلك الّتي قد تشكّلُ تحدياً لما يطرحُه.، وهو ما نجده بالفعلِ في نقدِه لمضادّاتِ الاكتئابِ وبعضِ الدراساتِ الّتي استشهد بها ليبيّن أنّ هذه الأدويةََ مجرّدُ حيلةٍ من الشركاتِ الكبيرة لكسبِ المال، حيث أنّ بحثاً بسيطاً على محركِ البحثِ غوغل كافٍ للعثورِ على العديدِ من الانتقاداتِ المقنعةِ الموجّهةِ نحو تلك الدراساتِ والأساسِ الذي قامتْ عليه.

أضفْ إلى ذلك أنّ هذا الكتابَ لا يمكنُ أن يُعدَّ أكثرَ من خطوةٍ أولى لفتحِ الحوارِ والنقاش، فما يملكُه من معلوماتٍ غيرُ كافٍ لبناءِ أنظمةٍ جديدةٍ لعلاجِ الاكتئاب.

ولكننّي رغم كلِّ تلك الانتقاداتِ ما زلتُ أقدّرُ أهميةََ هذا الكتابِ في عرضِه لأفكارٍ جديدةٍ وتحريكِ الرأي العام وتوجيهِ الجهودِ في سبيلِ العثورِ على علاجاتٍ أكثرَ فعاليّةً لما يُعَدُّ واحدةً من أهمِّ أزماتِ عصرِنا. وهو كتابٌ هامٌّ لكلِّ مَن عانى من الاكتئاب، أو مَن حاولَ فهمَه من دونِ أن يمرُّ به شخصياً.

العنوان الكامل: Lost Connections: Uncovering the Real Causes of Depression - and the Unexpected Solutions

الكاتب: Johann Hari
تاريخ النشر: كانون الثاني 2018
دار النشر: Bloomsbury USA
عدد الصفحات: 322
لا يوجد ترجمة عربية.