نساء طبيبات: نظرة شاملة لتاريخ المرأة في مهنة الطب
الطب >>>> مقالات طبية
أول امرأة ذُكِرت في تاريخ الطب هي الفرعونية "ميريت بتاح" (2700 قبل الميلاد)، وذُكرت بعدها في التاريخ طبيبات أُخريات، لكن لم يَكُن بينهن أي طبيبة مُجازة قانونيّاً، إلى أن ظهرت في القرن الثاني عشر الطبيبة الإيطالية المشهورة تروتا من مدينة ساليرنو والتي مارست الطب وكتبت وجمعت العديد من ممارساتها الطبية في كُتُبٍ عِدّة.. لكنها كانت ظاهرة استثنائية في جامعات القُرون الوُسطى التي كان يُديرها رجال الدين ولم يكُن مسموحاً للنساء دخولها. وخلال عصر النهضة الأوربية، حتى النساء الحاصلات على تعليمٍ جيّد لم يسمح لهنّ بدخول الجامعات للاستفادة من علم الطب المتطور، إلا أن الطبيبة لورا باسي (Laura Bassi) كانت استثناءً نادراً، و عُيِّنَت أُستاذة بروفيسورة للتشريح في جامعة بلغاريا عام 1732.
ولكن النساء قمن في ذات الوقت بتوفير العديد من الخدمات المدفوعة التي احتاجها الناس -بغضّ النظر عن استبعادهنَّ من التعليم الرسمي- بما فيها خدمات التمريض والمرضعات والقابلات والجراحات البسيطة والعلاجات العامة، وقد بقي عمل المرضعات (والعناية بحديثي الولادة) عملاً واسعاً وغير رسميٍ ولا يحتاج لرخصة قانونية، ولكن كان الأطباء الذكور يحلّون تدريجياً محلّ النساء حتى في أعمالهن التقليدية؛ كالتوليد مثلاً. رغم ذلك، فمن خلال التمريض قامت النساء بأول تقدُّم ملموس نحو الممارسة الرسمية للطب، وقد بدأت تطرأ التغيرات على مهنة التمريض مع إنشاء المستشفيات والسجون الإصلاحية في نهايات القرن الثامن عشر، وأصبح التدريب الجيد للممرضات متاحاً، لا سيما بمعهد الشماسة في كايزرورث بألمانيا (1836)، ومشفى فلورنس نايتينجيل الذي ساعد بترقية منهة التمريض كمهنة ذات احترامٍ للشابّات، وفي عام 1863 تأسس الصليب الأحمر الدولي كجهة أُخرى للتدريب على التمريض، ولكن حتى ذلك الحين لمم يكن التمريض يرى سوى أنه مجرد امتداد لدور النساء الاجتماعي: "الرعاية والتغذية".
لم يتسنى للنساء الانفتاح الكافي ليصبحنَ طبيباتٍ بعد، برغم سعي الكثير منهنّ في القرن التاسع عشر، حتى أنّ الطبيبة مارغرت بلكلي تنكرت كطبيبٍ رجلٍ لمدة 46 عاماَ كي تستطيع ممارسة مهنتها!.
في أواخر القرن حصلت النساء على حقهنّ بالدراسة بنفس مؤهلات الرجال، وكان على هؤلاء الطبيبات الأوائل أن يجابهنَ مقاومةً كبيرة من أفكار المجتمع.. ولكي نقرب إلى أذهاننا الأفكار التي كانت سائدة وقتها نقرأ ما ذكره أحد الأطباء المشهورين في مقالٍ عن ممارسة النساء للطب عام (1875):
"ليكون أحدهم طبيباً، يحتاج إلى ذهنٍ مُتفتِّحٍ وصافٍ، وتعليماً راسخاً ومتنوعاً، وشخصيّةً جادةً وقويّةً، وقدراً كبيراً من التحكّم بالنفس، وخليطاً من العطف والصبر، وتحكماً كاملاً يفوق عواطفه، قوة أخلاقية، وعضلية حين الضرورة... أليست طبيعة النساء العكس تماماً؟... وعند الحملِ، كيف لهُنَّ أن يقتربنَ من مرضاهُنَّ ببطونهنّ المنتفخة؟".
وذُكر في المجلة الطبية "Le Journal de Medicine" (1875): "العمل كطبيب غير ملائم إطلاقاً لنمط حياة المرأة".
استمرّ الوضع إلى أن أتت الحرب العالمية الأولى حيث كان هناك نقص في أعداد الرجال في الكليّات الطبية مع حاجة ملحة للأطباء للمشاركة في الحرب، مما شجّع النساء لدخول مجال التدريب الطبي، وتدريجياً قامت النساء بإثبات كفاءتهنَّ وفعاليتهنَّ كالرجال في هذا المجال، وبدأت أعداد الطبيبات بعدها بالازدياد، حيث بلغت نسبتهنّ في عام 1970 : 7.6% وصعدت بشكلٍ ملحوظٍ إلى 24% عام 2000، واليوم نرى أنّ عدد الطبيبات أصبح أكثر من أي وقتٍ مضى (نسبتهنّ 40% بين جميع أطباء العالم)، وقد سجّل عام 2003 حدثاً هاماً حيث كان أكثر من نصف المتقدّمين لكليات الطب في الولايات المتحدة الأمريكية نساء.
قد نتساءل: كيف تنسق طبيبات العالم بين عائلاتهن وممارسة مهنتهن؟ تظهر الإحصائيات أن قرابة النصف (49%) من الطبيبات العامّات يعملنَ بدوامٍ جزئي، مما قد يعني فعلياً الحاجة لأطباءٍ أكثر لتدريبهم وتوظيفهم لضمان عنايةٍ كافية للمرضى، ويقول تقرير لهيئة خدمة الصحة الوطنية في المملكة المتحدة (National Health Service): "الهيئة لا ترغب بخسارة أيّ من طاقمها من الطبيبات ذوات الكفاءة العالية والتدريب الجيد، ولا نرى بينهنّ اي دليل يدعم الرأي المنتشر بأن النساء أكثر قابليّة من الرجال لترك عملهن الطبي، وهدر موهبتهنّ وتعليمهن".
رغم ذلك، فهناك بعض الاختلافات في اختيار الاختصاص الطبيّ بين الجنسين، حيث تفضّل الطبيبات الاختصاصات التي تتضمن التفاعل مع المرضى، وتلك التي توفر ساعات عمل مُتَوَقَّعة أكثر مما يساعد في تنظيم الحياة العائلية، ولذا فإنّهن يخترن أن يصبحنَ طبيباتٍ عامات، أو طبيبات أطفال، أو طبيبات نفسيات، أو طبيبات في الصحة العامة ويفضلن ذلك على الجراحة أو الطب القلبي مثلاً.
تشير الاحصائيات إلى ندرة الطبيبات في القمم الإداريّة للمؤسسات الطبية، ولكن السبب قد يكون أن معظم الرجال الذين يشغلون هذه المناصب أعمارهم تتجاوز 55 سنة، مما يعني أنهم تدرّبوا في زمنٍ كانت فيه الطبيبات قلّة.
وعلى أية حال مازالت عدة صعوبات تواجه الطبيبات في ترقيهنّ في مسيرتهنّ المهنيّة، فهناك فارق في الأجور المدفوعة بين الطبيبات والأطباء، ووفقاً لدراسة في عام 2011، الطبيبات والجرّاحات يُحصّلن على 79% فقط مقارنة مع رواتب منافسيهنّ من الأطباء والجرّاحين، ومثلاً مع أن النساء يمثلن الغالبية في طب الأطفال إلا أنهنّ يكسبن 66% فقط مما يكسبه أطباء الأطفال الذكور، ويبقى هذا التفاوت في الدخل موجوداً حتى في حال مقارنة شرائح متطابقة من حيث الأعمار والتخصص وساعات العمل!
أيضا التحيّز الجنسي والتحرش الجنسي شائعتان في التدريب الطبي، ففي دراسة أجريت عام 2010 على أكثر من 3000 طالب طب، أظهرت الطبيبات بشكلٍ ملحوظٍ تعرضهن لنسبٍ أعلى من التمييز في المعاملة وبنسب 53.3% و 33.6% على التوالي، وتتضمن حالات التمييز حصولهنّ على رواتب أو منافع غير مكافئة للتي يحصل عليها زملاؤهنّ من نفس المستوى، أيضاً من هذه الحالات عدم مشاركتهنّ في اتخاذ القرارات الإدارية، وأن يُعامَلنَ بعدم احترامٍ من قبل طاقم التمريض أو كوادر الدعم الأُخرى، أو لا يتم إنصافهنّ في الحصول على الترقيات أو الإدارات العليا.
تقول الاحصائيات الحالية أنه بحلول عام 2017، قد يسجّل العالم للمرة الاولى عدداً للطبيبات الإناث أكثر من الأطباء الذكور! وهكذا فقد تجاوزت النساء كلّ تلك العقبات المجتمعية والدراسية وأثبتن وجودهنّ وكفاءتهنّ بجدارة، وبعد أن كان المجتمع يشكّ بقدرتهن على ممارسة مهنة الطب، نرى اليوم طبيباتٍ تقدن مشافي ضخمة نحو النجاح، وأخرياتٍ يستلمن جوائز نوبل على انجازاتهنّ الطبية،
وكثيرٌ من تلك الطبيبات نماذج حيّة على المزيج النادر الذي تقدمه المرأة من حيث الجمع بين المعرفة والكفاءة العلميّة من جهة، وبين اللطف والرعاية النفسيّة للمريض من جهةٍ أخرى.
وفي نهاية المقال لا يسعنا إلا أن نحيي الطبيبات وطالبات الطب في عالمنا العربيّ، ونرفع القبعات لنجاحهنّ وجهودهنّ في سبيل تحقيق النجاح المهنيّ الذي نتمنى أن يقفن فيه مع أندادهنّ من الرجال كتفاً بكتف، معاً للتحسين من حياة المرضى وإنقاذ الأرواح وتقديم رسالة الطب السامية على أكمل وجه.
المصادر:
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا
هنا