الهجرة.. وأثرها في اللغة
التعليم واللغات >>>> اللغويات
ولمعاينة هذا الأمر، سنأخذ ألمانيا على سبيل المثال، التي استقبلت -وما زالت تستقبل- طلباتِ لجوء من مواطنين من سورية ودول أخرى، وفيها عددٌ كبيرٌ من المهاجرين الأتراك أيضًا. فإذا هاجر شخصٌ بالغٌ إلى ألمانيا، فسوف تكون لديه فرصةٌ للتحدث بالألمانية لكنه لن يتقنَها إتقانًا مثاليًّا، لأنَّ لغةً كالألمانية تحتوي على كثيرٍ من القواعد المُعقَّدة -ستكونُ مجبرًا دائمًا مثلًا على تذكير نفسك بأنَّ الملعقة مذكرة والشوكة مؤنثة والسكين محايدة، ولذا فهي تصعب جدًّا على المهاجرين البالغين، في حين إنَّه من المُحتمَل أن يتمكن أطفال المهاجرين الذين يَنشؤون وسط المتحدثين الألمان الأصليين من التحدث باللغة الألمانية إضافةً إلى لغتهم الأم.
ومع ذلك، فإنَّه من الشائع جدًا في ألمانيا أن يتكلَّم شابٌّ -من والدين من المهاجرِين الناطقين باللغة العربية أو التركية- نوعًا من الألمانية التي تبدو غريبةً على أسماع الناطقين الأصليين مع كونِه نشأ يتحدَّثُ اللغة، فمثلًا في الألمانية القياسية نُعبِّر عن جملة مثل "أنا ذاهب إلى السينما غدًا" بـ:
Morgen gehe ich ins Kino أي "غدًا أذهب أنا إلى السينما"
ومع ذلك، فإن أطفال المهاجرين داخل المدن غالبًا ما يقولون فيما بينهم:
Morgen ich geh Kino أي "غدًا أذهب السينما" كما لو كانوا يتحدثون باللغة الإنكليزية.
ولكن في اللغة الألمانية القياسية يجب عليك قول "غدًا أذهب أنا" بدلًا من "غدًا أذهب"، و"إلى السينما" بدلًا من "السينما"؛ والنتيجة هي نشوء لغة تُسمَّى ألمانيةَ أحياء المهاجرين Kiezdeutsch، وهو أمرٌ لا يختلف كثيرًا سواءٌ أكان الوالدان يتكلَّمان التركية أم العربية أم الصومالية أم أية لغة أخرى - فاللهجة الجديدة هذه قد تبلورت داخل شيء خاص بها هي وحدَها.
تسمح ألمانيةُ أحياء المهاجرين في ألمانيا أيضًا بتجاهُلِ فعل الكينونة في بعض الأحيان، وهذا ما يذكِّرنا باللغة الإنكليزية الخاصة بالأمريكيين الأفارقة. ولأنَّ الطريقة التي يتحدَّثُ بها الأشخاصُ تعكسُ نظرتهم إلى أنفسهم داخل المجتمع فهم يبحثون عن لغة تنقل هُويتهم وأفكارهم، ففي أوَّلِ مرَّة جُلب فيها العبيد الأفارقة إلى الولايات المتحدة كانوا يميلون إلى عدم تعلم الإنكليزية، في حين كان أطفالهم أكثر إتقانًا منهم للغة الإنكليزية الأصلية، ولكنهم مع ذلك؛ طوَّروا طريقةً للتحدث داخل مجموعاتهم التي احتفظت ببعض سماتِ لغة الآباء.
فألمانية الأحياء هي بصمةُ وجودٍ لمجتمعٍ جديد نسبيًّا في ألمانيا اليوم، وكما إنَّ الإنكليزية الخاصة بالأمريكيين الأفارقة ليست مزيجًا من قواعد اللغة الإنكليزية مع بعض اللغات الإفريقية، فإنَّ اللغةَ المستخدمة في تركيب الجمل داخل أحياء المهاجرين في ألمانيا أيضًا ليست مزيجًا من اللغة العربية والتركية والألمانية، بل إنَّنا نجدُ حتى الأشخاص القادرين على التحدُّثِ باللغة الألمانية القياسية يستخدمون نوعًا مختلفًا فيما بينهم يَحُلُّ بعض التعقيدات التي يرونها غير ضرورية في الألمانية التي يتحدث بها آباؤهم، ولأنَّ اللغاتِ عادةً ما تكون أكثر تفصيلًا مما تقتضي الحاجة فإنَّ تبسيطها لا يقلِّلُ من قدرتِها التعبيرية.
ومثل الإنكليزية الخاصة بالأمريكيين الأفارقة، لا تَخضعُ لهجاتٌ كالتي يتكلَّمُها المهاجرون في أحياء ألمانيا لشروط خاصة بألمانيا وحدها، بل وتظهرُ أصنافٌ مماثلة في السويد والدنمارك والنرويج وهولندا، ويطلق المتخصصون على هذه الإصدارات الجديدة من اللغات القديمة في أوروبا مصطلحَ لغة الأقليات multiethnolects، لكنَّ المفهوم ينطبق كذلك على خارج أوروبا، ويكاد يكون من الممكن التنبؤ بنشوء اللغات متعددة الصيغ في المدن التي يوجد فيها أعدادٌ كبيرة من المهاجرين، ففي السنغال مثلًا لدينا اللغة الولوفيّة، وهي لغةٌ يتحدَّث بها أغلب سكان السنغال وأقليّةٌ كبيرةٌ في موريتانيا، وتنقسم الأسماءُ في هذه اللغة إلى ثمانيةِ أجناس على نحوٍ لا يمكن التنبُّؤ به إلى حدٍّ ما، ولذلك فالمهاجرون إلى المدن السنغاليّة -الذين لا يتحدثون باللغة الولوفية الأصلية Wolof- لديهم طريقةٌ لاستخدام نوع واحد فقط من علامات الجنس للأسماء كافَّةً، وليس هم فحسب، بل أطفالهم أيضًا. ونجد أن واحدًا فقط من كل أربعة متحدثين باللغة الإندونيسية كان قد تعلمها بصفتها لغته الأم، ولاستخدامها للتواصل في المجتمع؛ وقد أُلغيت كثيرٌ من القواعد المعقدة في الكتب المدرسية؛ فالعامية الدارجة تميل إلى إبطالِ العديد من القواعد الموضوعة أو تبسيطها وذلك مراعاةً للتنوع القياسي.
ولا تُعدُّ اللغاتُ المتعددة لغاتٍ مبسطة أو هجينة؛ إذ يأخذ الناس المفرداتِ من لغة استعمارية وقواعدَ اللغة من لغاتهم الأصلية، ويبدؤون بطريقة مبتكرة بلغة بديلة، ثم يتوسَّعون إلى لغة جديدة تمامًا، لأن الهوَّةَ بين الأصلي والجديد هنا أوسعُ نطاقًا مما هي عليه في لغات الأقليات، فمثلًا الهايتية الهجينة لا يوجدُ فيها العلاماتُ الفرنسية المُخصَّصةُ للجنس، ولا النهاياتُ المقترنة بالأفعال المنتظمة والصيغ غير المنتظمة، ولا حتَّى سماتٌ مزعجةٌ مثل ضمائر الظرف y وen التي تعذب المتعلمين في جميع أنحاء العالم، لأنها لغةٌ تدين بكثير من قواعدها لإفريقيا، وفي نظر أي فرنسيٍّ تُعدُّ الهايتية لغةً منفصلةً تمامًا.
ليست اللغة العامية سوى زخرفةٍ للغة، وهي تتغير باستمرار دونَ المساس بالأساس؛ أي المفرداتِ المحايدة والهياكلِ النحوية. ومن المنطقي أنَّه في غضون خمسين سنةً سيكون هناك أوروبيون من أصل مهاجر يستخدمون أنواعًا متعددةَ الألفاظ في حديثهم العامِّي، وسنرى هذا واضحًا؛ خاصةً في لغات الأقليات خارج أوروبا.
ففي المنطقة الجنوبية الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية أنشأ أطفالُ العمالِ المهاجرين نسخةً "مُبسَّطةً" من اللغة السواحيلية في أوائل القرن العشرين يستخدمُها الملايين اليوم بصفتها لغةً أصلية. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الهجرات المتزايدة التي تشهدها دولٌ مثل إيطاليا ستولِّد أنواعًا جديدة من الإيطالية الغنية بالعامية، التي ستكون إلى حدٍّ ما أقلَّ تفصيلًا من اللغة الأصلية، مثلَ لغة أحياء المهاجرين في ألمانيا، والإنكليزية الخاصة بالأمريكيين الأفارقة، ولغات الأقليات الأخرى، التي تُعدُّ على نطاق واسع علاماتِ تدهورٍ لغوي يُبشِّر بمستقبل لا وجود فيه للغات الأصلية. ومع تزايُدِ عدد الدول الأوروبية التي تستقبل أعدادًا كبيرةً من المهاجرين، يمكننا أن نتوقَّعَ لها اللهجات الجديدة نفسها كما في أيّ مكانٍ آخرَ.
ويمكنُ للغةِ العاميةِ أن تزدهرَ مُستقلَّةً عن اللغة الرسمية؛ فالناطقون بالعربيةِ يعرفون أنَّ اللغةَ المغربية المُستخدمة في الرباط تختلف عن اللغة العربية الفصحى اختلافَ الإسبانية عن اللاتينية، ومع ذلك فلا أحد يعتقد أنَّ المغاربة يشكلون تهديدًا على اللغة الفصحى. فالمغربيون يتحدثون بطريقتين وفقًا لجانبين من الشخصية، وهما الرسميةُ وغيرُ الرسمية. ووسط الحالةِ المهيمنةِ للأسف المتمثلةِ بزوال لغات العالم عبر تاريخها الطبيعي، فإن ظاهرةَ لغة الأقليات هي في النهاية قصة ميلاد، ميلادُ جيل جديد ولغات جديدة تمثِّلُ مصدرًا خِصبًا للابتكار اللغوي.
المصدر:
هنا