الجرعة الآمنة من المشروبات الكحولية؛ حقيقةٌ أم ادّعاء؟!
الغذاء والتغذية >>>> منوعات غذائية
قبل البدء بالحديث عن الدراسات التي تؤيد أو تندد باستهلاكِ المشروبات الكحولية، علينا أن نتحدث قليلًا عن أنواع المشروبات الكحولية؛ إذ تختلف فيما بينها بتركيز الكحول والمكونات الأخرى، وبذلك فإن تأثيراتِ أيٍّ منها على الصحة ستختلف وفقًا لهذه العوامل، فكمية الكحول في البيرة مثلًا تعادل 5%، وفي النبيذ 12%؛ وترتفع إلى 40% في المشروبات الكحولية المُقطَّرة كالويسكي والفودكا، جميعُها كنسبة حجمية (أي حجم/حجم).
ومن المعروف أن العديد من الدراسات السابقة قد تطرّقت إلى الفوائد المحتملة لبعض المشروبات الكحولية، وخصوصًا النبيذ والبيرة، إذ وُجد أنَّ لها دورًا في تحسين صحة القلب وإطالة العمر، وكذلك وُجِد أن النبيذ الأحمر يؤدّي دورًا في رفع مستوى الكوليستيرول الجيد HDL، إضافةً إلى احتوائه على العديد من مضادات الأكسدة مثل الريسفيراترول resveratrol والبروانثوسيانيدين proanthocyanidin والكيرسيتين quercetin، والتي تؤثّر جميعها في حماية الجسم من التأثير السلبي للجذور الحرة. وقد ذهبت بعض الدراسات إلى النُّصح بتناول كأس من النبيذ الأحمر يوميًّا للاستفادة من فوائده على ألّا تُتَجاوَز هذه الكمية تجنّبًا للأخطار الناجمة عن الجرعات العالية من الكحول.
من جهةٍ أخرى؛ نُسِبَ في العام 2016 أكثرُ من 3 ملايين حالةِ وفاةٍ إلى تعاطي الكحول، متضمّنًا نسبة 12 بالمئة من الوفيات بين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و49، وهو ما يتفق مع عددٍ كبير من الدراسات التي وَجدت ارتباطاتٍ واضحة ومُقنعة بين الشرب والوفاة المبكرة والسرطان ومشكلات القلب والأوعية الدموية، مع التأكيد على إمكانيةِ خفضِ هذه المخاطر الصحية إلى الصفر عبر تقليل استهلاك الكحول إلى الصفر.
وفي الواقع؛ يحاول العديد من الأشخاص تحديد كميةِ المشروبات الكحولية التي يتناولونها وفق حدودٍ تُعرَف بالمستويات الآمنة من الكحول، والتي تُعرَّف بأنّها الكميةُ التي لا يُسبِّبُ تناولُها أي أضرار في الجسم، علمًا أنَّ أنماطَ استهلاكِ الكحول تختلف اختلافًا واسعًا حسب البلد والجنس ومتوسط الاستهلاك لكل فرد، وعبء المرض المنسوب إليه.
وهنا جاءت دراسةٌ جديدةٌ لتلقي الضوءَ على هذا الموضوع في بحثٍ تطرّق للادعاءات المحيطة بالمشروبات الكحولية، ونُشرَت نتائج ذلك البحث منذ أيام قليلة في المجلة الطبية الدولية The Lancet. فإلامَ توصّلت هذه الدراسة؟ وما الخطوات التي مرّت بها؟
لنبدأ من الخاتمة حتى لا نتسرّع في الحكم على النتائج، فقد توصّلت الدراسة إلى عدم وجود أيّةِ جرعةٍ صحيَّة للكحول، لتنضمَّ المشروبات الكحولية بذلك إلى التدخين الذي يَغفلُ العديد من الأشخاص عن أضراره في بعض المجتمعات بسببِ عدم تعارضِه مع الاعتباراتِ الدينية لهم؛ إذ يجب الانتباه إلى أنّه على الرّغم من بعض النتائج الإيجابية التي توصل إليها الباحثون في عددٍ من الدول (والموضّحة في الجداول أدناه)؛ لكنَّ الحالةَ الصحية للأفراد القاطنين في هذه الدول تُعدُّ شديدةَ التدنّي، ويرتبط ذلك بسببٍ بسيط جدًا، وهو أنَّ امتناعهم عن استهلاك الكحول لم يكن لأسبابٍ أو ودوافع صحية، بل لأسبابٍ دينيةٍ بحتة، وبذلك فإنّهم لا يشعرون بالحاجة إلى الاهتمام بنوعية طعامهم أو نمط حياتهم أو مدى ممارستهم للرياضة أو حتى التدخين ممّا يسيءُ إلى صحتهم، ولكنَّ النتائج تبدو إيجابيّةً -من وجهةِ نظر الباحثين- في شأن استهلاك الكحول.
ومن الجدير بالذكر؛ أنَّ هذهِ الدراسة لم تميز بين الأنواع المختلفة من المشروبات الكحولية، ولم تحدد ما إذا كان هنالك ارتباط بين الأضرار الصحية ونوع معينٍ من المشروبات الكحولية، وعُزي ذلك إلى نقص الأدلة في الدراساتِ السابقة والتي لم تحدِّد نوعَ المشروب المستهلك. ولتسهيل الدمج بين الأنواع؛ اعتمد الباحثون بدلًا من ذلك على قياس مؤشر كمية الشرب القياسية Standard Drink**، لكنَّ هذه الطريقة غير واقعية؛ إذ لا يستطيع معظم الشاربين الذين ملأوا الاستبانات تحديدَ كمية مشروباتهم الحقيقية مقارنة بالكمية القياسية، وبذلك فإن أيَّ فرقٍ في حجم المشروب يمكن أن يشكّل فرقًا كبيرًا؛ خاصّةً عند اختلاف المشروبات المستهلكة، فحجمٌ واحدٌ من الويسكي يحتوي 40% كحولًا في حين يحتوي النبيذ على 13% والبيرة على 4% فقط؛ أي إنَّ محتوى الويسكي من الكحول يفوق محتوى النبيذ بثلاثة أضعاف ومحتوى البيرة بعشرةِ أضعاف. وكذلك فإنَّ تأثيرَ المركبات الأخرى التي يمكن أن تكون موجودةً في بعض المشروبات الكحولية المخمّرة (كالنبيذ والبيرة) قد أُهمل كليًّا عند مقارنتِها بالمشروبات الكحولية المقطّرة كالويسكي والفودكا، وأهمُّ هذه المُركَّبات هي مضادات الأكسدة التي يُعتقَدُ بأنَّها السببُ وراءَ ما توصلت إليه بعضُ الدراساتِ السابقة من نتائجَ إيجابيةٍ لاستهلاك بعض المشروبات الكحولية وخاصّةً النبيذ.
وعن تفاصيل مجريات الدراسة ونتائجها، قيّم الباحثون أولًا النتائجَ والأنماطَ الصحية المتعلقة بالكحول بين عامي 1990 و2016 في 195 بلدًا وإقليمًا وقسَّموها حسب العمر والجنس، وقدّم البحث نتائجَ حول انتشار استهلاك المشروبات الكحولية وحالاتِ التوقُّف عن استهلاكها، والكمياتِ المستهلكة، والوفياتِ المنسوبةِ إلى الشرب، وتضرَّر الصحة العامة الناتج عنه، وذلك في 23 حالة صحية من الأمراض والإصابات السارية وغير المعدية والتي شملت:
- أمراض القلب والأوعية الدموية مثل الرجَفان الأُذَيني والرفرفة، والسكتة الدماغية النزفية، والسكتة الدماغية، وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، وأمراض نقص تروية القلب، واعتلال عضلة القلب الكحولي.
- سرطان الثدي، والقولون والمستقيم، والكبد، والمريء، والحنجرة، والشفة والجوف الفموي، والأنف.
- أمراض أخرى غير معدية: تشمُّع الكبد بسبب تعاطي الكحول، والسكري، والصرع، والتهاب البنكرياس، واضطرابات إدمان الكحول.
- الأمراض السارية: التهابات الجهاز التنفسي السفلي والسل.
- الإصابات المتعمَّدة: العنف بين الأشخاص وإيذاء النفس.
- الإصابات غير المتعمَّدة: التعرُّضُ للإصاباتِ، وحالاتِ التسمُّم، والإصابة بسبب النار والحرارة والمواد الساخنة والغرق وغيرها من الإصابات غير المُتعمَّدة.
- الإصابات المتعلقة بالنقل.
واستخدمت الدراسةُ 694 مصدرًا للبيانات عن استهلاك الكحول على مستوى الفرد والسكان، إلى جانب 592 دراسة استباقية Prospective studies واستعادية Retrospective study عن مخاطر تعاطي الكحول، فضلًا عن مساهمةِ أكثر من 500 شخص من المتعاونين في هذا المجال من باحثين وأكاديميين وغيرهم من أكثر من 40 دولة في العالم.
وبحسب نتائج الدراسة؛ وُجد أن الدول الثمانية ذات المعدل الأدنى من الوفيات المتعلقة بتعاطي الكحول بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 49 سنة في العام 2016 قد كانت: الكويت وإيران وفلسطين وليبيا والمملكة العربية السعودية واليمن والأردن وسوريا من دول الشرق الأوسط؛ إضافةً إلى المالديف وسنغافورة.
وعلى العكس من ذلك؛ تقع الدول السبعُ ذات المعدل الأعلى من الوفيات المتعلقة بتعاطي الكحول في مناطق البلطيق أو أوروبا الشرقية أو آسيا الوسطى، وتحديدًا روسيا وأوكرانيا وليتوانيا وروسيا البيضاء ومنغوليا ولاتفيا وكازاخستان؛ إضافةً إلى ليسوتو وبوروندي وجمهورية أفريقيا الوسطى.
وقد أشارت الدكتورة Emmanuela Gakidou من معهد القياسات الصحية والتقييم في جامعة واشنطن والمؤلف الرئيس للدراسة أنَّ على المسؤولين الصحيين في تلك الدول تحسينَ سياساتهم وبرامجهم في ضوء ما قدمته الدراسة من نتائج بغيةَ خفضِ مستويات استهلاك الكحول لدى الأفراد أو حتى منعِها تمامًا وتحسينَ صحة شعوبهم.
وفيما يأتي بعضُ البيانات عن معدل الوفيات المنسوبة إلى تعاطي الكحول، والمعدَّل هو لكلِّ 100 ألف شخص بأعمارٍ بين 15-49 سنة، ولِكلا الجنسين:
هنا
انتشار الشاربين (٪)، كل الأعمار، 2016:
الذكور:
هنا
الإناث:
هنا
معدل المشروبات العادية اليومية، جميع الأعمار، 2016
الذكور:
هنا
الإناث:
هنا
** كمية الشرب القياسية أو الاستهلاك المتوسط: وهو مصطلحٌ يشيرُ إلى تناول الشخص للكمية القياسية من الشراب الكحولي، والذي اعتمدَ في هذه الدراسة على أنَّه 10 غرامات من الكحول النقيّ يوميًّا؛ أي ما يعادل:
- كوبًا صغيرًا من النبيذ الأحمر (100 مل أو 3.4 أونصة سائلة) بمحتوى 13٪ كحول (حجمًا).
- عبوة بيرة أو زجاجة (375 مل أو 12 أونصة سائلة) بمحتوى 3.5٪ كحول (حجماً)
- جرعة Shot من الويسكي أو غيرها من المشروبات الكحولية غير المُحلَّاة (30 مل أو 1.0 أونصة سائلة) بمحتوى 40٪ كحول (حجمًا)
علمًا أنَّ الكميةَ القياسية للمشروبات الكحولية تختلف حسب البلد، ففي المملكة المتحدة تبلغُ 8 غرامات من الكحول، في حين تصل إلى 10 و14 و20 غرامًا في أستراليا والولايات المتحدة واليابان على التوالي.
المصادر:
1- هنا
2- هنا
3- هنا
4- هنا
5- هنا
الدراسة المرجعية:
GBD 2016 Alcohol Collaborators. Alcohol use and burden for 195 countries and territories, 1990–2016: a systematic analysis for the Global Burden of Disease Study 2016. The Lancet. 23 Aug 2018. doi:10.1016/S0140-6736(18)31310-2